سالم الكتبي يكتب:
الإمارات والخطيئة القومية المزعومة
عادة ما تلجأ التنظيمات والجماعات المؤدلجة وحتى الأنظمة الشعبوية إلى الشعارات البراقة والعبارات الرنانة في خطاباتها التعبوية التي تستهدف عواطف ومشاعر البسطاء بعيدا عن لغة العقل والمنطق التي تستلزم خطابا هادئا قائما على الحقائق والبراهين. وفي هذا الإطار يمكن فهم ردة فعل حركة “حماس” الفلسطينية على افتتاح سفارة إسرائيل في أبوظبي خلال الزيارة التي قام بها مؤخرا للإمارات وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد حيث اعتبرت الحركة أن هذا الافتتاح يعكس إصرار دولة الإمارات على ما وصفته الحركة بالخطيئة القومية التي ارتكبتها بتوقيعها اتفاق التطبيع مع إسرائيل، وزعمت أن افتتاح السفارة في الوقت الراهن يؤكد أن اتفاقيات التطبيع “تشجع الاحتلال الإسرائيلي على تصعيد عدوانه ضد الشعب الفلسطيني ومقدساته”!.
وبطبيعة الحال من حق حركة “حماس” أو غيرها من الحركات والتنظيمات والجبهات الفلسطينية أن تقول ما تشاء حين تبدي رأيها في ما يحدث من تطورات إقليمية أو دولية، وأن ترفض وتعترض وتستنكر كما تريد، فتلك مواقفها ولا أحد يصادر عليها رأيها ولكنني أجد من حقي، كمراقب سياسي، أن أتناول مواقف وتعليقات هذه التنظيمات بالتحليل الذي أراه موضوعيا ولا يتنافى مع حق كل طرف في إبداء ما يراه من مواقف. وهكذا اعتقد أن محاولة وصف افتتاح سفارة إسرائيلية في الإمارات بأنه “خطيئة قومية” هو الخطيئة بعينها لأن “حماس” وغيرها من التنظيمات الفلسطينية لم تعد تعير أدنى اهتمام بالفكر أو التيار القومي الذي تتدثّر به حينا وتتنكّر له أحيانا أخرى، وإلا فمن باب أولى أن تسأل الحركة نفسها أولا عن موقع القومية العربية حين ترتمي الحركة في أحضان أحد ألد أعداء العروبة وهو نظام الملالي الإيراني، فضلا عن علاقاتها مع تركيا، ولا يخفى على أحد مستوى عداء هذين النظامين للقومية العربية التي تحاول حركة “حماس” رفع شعارها!
“حماس” أيضا هي حركة ذات ارتباط أيديولوجي ديني، باعتبارها أحد فروع جماعة “الإخوان المسلمين” الإرهابية، ولا أحد يجادل في ذلك، كما أنه لا أحد يتشكك أيضا في حالة القطيعة والعداء المطلق بين فكر الحركة الأم (الإخوان) وبين فكرة القومية العربية، التي تستخدمها “حماس” في محاولة وصم السياسة الإماراتية نحو إسرائيل بالخطيئة! ما يعكس حجم الخداع والمناورة في توظيف الشعارات والمتاجرة بالمواقف من جانب هذه الحركات والتنظيمات.
المسألة لا تتعلق بقرارات تحظى بالإعجاب أو الرفض، فأي قرار أو سياسات قابلة للنقد والتفنيد شريطة أن يكون لكل رأي ما يدعمه عقلا ومنطقا، وأن يعبّر فعلا عن قناعات صاحبه ومواقفه كافة، بحيث يكون هناك نوع من التماهي مع الذات فكرا وسلوكا
ثمة أمر آخر مهمّ، برأيي، يتعلق بوصف العلاقات العربية مع إسرائيل بأنها “خطيئة”، وهو وصف يفترض أن يشمل كل طرف عربي له علاقات رسمية أو غير رسمية مع إسرائيل، فمن غير المنطقي أن يكون هذا الوصف المزعوم محصورا في نهج الإمارات وسلوكها، وإلا أصبح الاستهداف واضحا ومكشوفا، وهو كذلك بالفعل، ولكننا نريد أن نبرهن عليه بالأدلة والبراهين. فهناك دول عربية عدة سبقت الإمارات إلى بناء علاقات رسمية مع إسرائيل، بل هناك أطراف فلسطينية سبقت إلى توقيع اتفاقيات رسمية منذ تسعينات القرن العشرين، ولا تخلو هواتفها يوميا من “رنات” إسرائيلية، كما أن هناك محطات عربية “أثيرة” ومحببة ومفضلة لدى قادة “حماس” أنفسهم سبقت الإمارات بسنوات طويلة في فتح مكاتب تمثيل تجاري وبناء علاقات رسمية وغير رسمية مع إسرائيل. وإذا كان وصم مثل تلك السياسات السيادية بالخطيئة العربية فالدوحة، حيث يقيم قادة حماس التاريخيون، كان لها السبق والريادة في الوقوع في الخطيئة، إلا إذا كانت العطايا القطرية قد جلبت للدوحة “صكوك غفران” تمحو ما تعتبره الحركة “خطايا”.
لست هنا بصدد الدفاع عن موقف الإمارات بشأن إقامة علاقات مع إسرائيل أو افتتاح سفارة أو قنصلية لها، فهذه قرارات سيادية تتخذ بناء على مصالح استراتيجية عليا للدول والشعوب، ولا يحق لأي طرف خارجي رفضها أو التدخل فيها. فضلا عن أنه تم تناول هذه الأمور في حينها وتم شرح موقف الإمارات ومستهدفاتها ومبرراتها باستفاضة سواء على الصعيد الرسمي أو التحليلي، ولكنني أرفض، بشكل عام، فكرة ازدواجية المعايير أو سياسة الكيل بمكيالين سواء في بنية العلاقات الدولية أو في نظرة البعض لسياسات الآخرين. فالمسألة هنا لا تتعلق بقرارات تحظى بالإعجاب أو الرفض، فأي قرار أو سياسات قابلة للنقد والتفنيد شريطة أن يكون لكل رأي ما يدعمه عقلا ومنطقا، وأن يعبّر فعلا عن قناعات صاحبه ومواقفه كافة، بحيث يكون هناك نوع من التماهي مع الذات فكرا وسلوكا، ولكن الانتقائية في التعبير عن الرأي هي ما يثير الدهشة والحيرة والاستغراب. فلا يعقل أن تقبل أمرا من طرف وترفضه من طرف آخر، طالما أن الثوابت في الحالتين لم تتغير، وإلا يكون موقفك مدعاة للدهشة وبرهانا كاشفا عن الخداع والمراوغة والمتاجرة بالمواقف والأفكار.
التاريخ يقول إن الإمارات لم تتخلّ مطلقا عن أمتها وشعوبها العربية، بل هي دائما في صدارة صفوف المدافعين عن قضاياها ومصالحها، ومن ينكر ذلك عليه أن يراجع مواقف الإمارات قديما وحديثا، وأن ينظر في المرآة ليعرف هوية من يتحالف مع أعداء العرب الذين يتباهون باحتلال عواصمنا في العراق وسوريا واليمن ولبنان!