معن بشور يكتب:
ثورة يوليو والنداءات الثلاث
في زمن تجتمع فيه قوى وثورات وحروب ومظالم من أجل كيّ الذاكرة، تصبح مهمة إحياء الذاكرة بكل ما في هذه الذاكرة من أحداث وأبطال وانتصارات وخيبات، واحداً من أرقى أشكال المقاومة الثقافية المتكاملة مع شتّى أنواع المقاومة الأخرى..
وإحياء الذاكرة بمعناه الإيجابي هو تحرير لنظرتنا إلى الماضي كسجن نبقى أسراه إلى ما لا نهاية، وتحويله إلى مدرسة نتعلّم من دروسه لنطّور الإيجابي منها ونتخلص من السلبي منها..
ونحن حين نتعامل مع ثورة 23 يوليو/تموز 1952، بقيادة الخالد الذكر جمال عبد الناصر، كما مع غيرها من الأحداث والتحولات في حياتنا، لا نفعل ذلك من باب الوفاء لمحطات مشرقة في كفاحنا المستمّر فحسب، بل لكي نتّبصر في معانيها ودلالاتها، ونستلهم منها الأطر والسبل والأساليب لمواجهة التحديات الراهنة..
وإذا كان في تاريخ كل قطر عربي محطات إيجابية وسلبية، فإن ثورة 23 يوليو/تموز 1952 في مصر كانت محطة تحّول مصرية وعربية كبيرة ، بل كانت محطة إقليمية ودولية مهمة.. فهي وإن قدّمت لشعبها وأمّتها والإنسانية الشيء الكثير في أكثر من ميدان، لكن الأهم أنها أعطت مصر فكرة عن أهمية دورها القومي والإقليمي والعالمي، وأعطت العرب فكرة عن قدرتهم على مواجهة التحديات وخوض معارك كبرى، بل عن قدرتهم على التأثير في مجريات الأمور من حولهم إذا توحّدت كلمتهم وتوفرت لهم الإرادة الثابتة والقيادة الأمينة لمبادىء الأمّة والشجاعة في مواجهة التحديات، المدركة لقوانين الصراع وأبرزها عمق الترابط بين الاحتلال الخارجي والاختلال الداخلي.
صحيح أن الحديث عن إنجازات ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر طويل وشامل لميادين مختلفة من حياتنا، وصحيح أن الحديث عن إخفاقات الثورة وانتكاساتها أيضاً طويل، لكن يبقى لهذه الثورة نداء واحد مدو في الأرض العربية لا يمكن أن تخفيه العقود، ولا تطفىء جذوته الخيبات..
نداء ثورة 23 يوليو، كما نداء ثورات عدة عرفها وطننا العربي طيلة القرن الماضي، ومع هذا القرن، هو نداء الوحدة والاستقلال والعدالة..
فلقد علمتنا الأيام، أن لا مستقبل لهذه الأمّة، بل لأي قطر من أقطارها، بدون وحدة تصون المجتمع، وتحقق التكامل بين الأقطار والتنمية المستدامة والمستقلة فيها، وتضمن الأمن القومي للأمّة بكل أبعاده، وتحصن استقرار المجتمع بوجه كل الاهتزازات ، وقد جرّبت الأمّة كل أنواع المشاريع التي تسعى إلى تجاهل العروبة والوحدة العربية، ناهيك بالوحدات الوطنية، فلم تكن النتيجة سوى التراجع والترّهل والانهيار..
والوحدة التي تحمل ثورة 23 يوليو نداءها، ليست مجرد صيغ سياسية ودستورية تتراوح بين التنسيق والتكامل والتقدم والكونفدرالية والاتحاد الفدرالي، بل هي أيضاَ ممارسة يومية، وخطاب نظري وسياسي، فردي وجماعي، يوّجهان علاقاتنا كأفراد وجماعات وأقطار ببعضنا البعض..
والوحدة قبل أن تكون فعلاً دستورياً، هي أيضاً فعل شعبي يتجسد بوحدة الجماهير العربية حول قضايا الأمّة الكبرى وفي مقدمها قضية فلسطين ، وبالتكامل بين مكوناتها الاجتماعية والعرقية والمدنية دون أي إقصاء وتناحر، بل هي وحدة نضال تتوحد فيها الأمّة في النضال ضد أعدائها، تماماً كما تبني بينها وحدة نضال هي القاعدة لكل وحدة..
وعلمتنا التجارب أيضاً أن كل خطاب أو ممارسة أو سلوك يقود إلى إثارة التناقضات بين مكونات الأمّة هو خطاب تقسيمي وانفصالي مهما " تجلبب بجلباب الوحدة" ورفع شعاراتها، تماماً كما أن كل دعوة وحدوية تتجاهل خصوصية مكونات الأمّة، الوطنية والثقافية، والدينية، والعربية هي دعوة لا تّمت إلى الوحدة بصلة، فالوحدة ليست مجرد جمع أقطار وجماعات، بل هي أيضاً تفهّم خصوصية كل قطر وجماعة واحترامها..
ونداء الوحدة يقودنا بالضرورة إلى نداء الاستقلال، فلقد علمتنا الأيام أن لا وحدة عملية بدون استقلال، ولا استقلال ناجزاً بدون وحدة، لذلك رأينا أن الاستعمار أطّل إلى بلادنا عبر مدخلين، أولهما معاهدة سايكس – بيكو بما هي تجزئة للوطن الكبير، وقيام كيانات تحمل في داخلها عوامل انفجارها وتفتيتها، وثانيهما وعد بلفور الذي لم تكن غايته إنشاء كيان صهيوني على أرض فلسطين فحسب، بل أن تكون أرض فلسطين حاجزاً بين مشرق الأمّة ومغربها، وتحديداً بين مصر وبلاد الشام والرافدين..
لذلك لم تكن صدفة أيضاً أن ترتبط معارك الاستقلال في أقطارنا العربية بدعوات المناضلين من أهلها إلى الوحدة، بل الى معارك وثورات يشارك فيها عرب من أقطار عدة تنادوا لخوض معركة تحرير هذا القطر أو ذاك، ولم تكن صدفة أيضاً أن هذا الاستقلال بقي مهدّداً ومشوباً بشوائب عدّة لأنه لم ينجح في استكمال واقعه بالوحدة..
ولا يمكن فصل الحديث عن نداء الوحدة ونداء الاستقلال عن نداء العدالة، لا لأن العدالة قيمة أخلاقية وإنسانية لا تستقر المجتمعات وترتقي في غيابها، بل لأن للعدالة مضامين اجتماعية تسهم في مواجهة الاحتكار والاستغلال والفساد، كما في إتاحة الفرص المتكافئة لكل مواطن بعيداً عن الاعتبارات العرقية أو المدنية أو المذهبية أو المناطقية..
وكما ترتبط معركة الوحدة بمعركة الاستقلال، ترتبط المعركتان أيضاً بمعركة العدالة، فالحصول على العدالة في أمّة كبيرة موحدة، وفي دول مستقلة بالفعل عن الهيمنة الاستعمارية هي بالتأكيد أسهل، تماماً كما وأن مشعل العدالة الإنسانية المقرونة بالكرامة والحرية طبعاً، يضيء الدرب أمام المناضلين من أجل الوحدة والاستقلال ويعطي لنضالهم زخماً أكبر وقاعدة شعبية أوسع..
ثورة يوليو منذ انطلاقتها حملت النداءات الثلاث.. نداءالوحدة.. نداء الاستقلال.. نداء العدالة، وهي نداءات يحملها مشروعنا النهضوي الحالي وعناصره الست: الوحدة العربية، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، العدالة الاجتماعية، التنمية المستقلة والتجدد الحضاري، بل يجمعها كل مشروع نهضوي أياً كانت الخلفيات الفكرية لحامليه..
ولذلك ليس من قبيل الصدف أن تندلع ثورة 23 يوليو في مصر عام 1952، عشية الذكرى 28 لمعركة ميسلون الخالدة في سورية عام 1924، التي قادها واستشهد فيها يوسف العظمة، لما للعلاقة بين مصر وسورية من جذور عميقة على غير مستوى فحسب، بل لأنه إذا كانت معركة ميسلون على أبواب دمشق بقيادة " الجيش العربي " هي معركة استقلال ووحدة، فأن معركة يوليو على أرض النيل هي استكمال لتلك المعركة، وأن استشهاد جمال عبد الناصر عام 1970، هو استكمال لمسيرة استشهاد يوسف العظمة عام 1924 . الذي يُعتبر بحق أحد رواد المقاومة العربية ضد الاستعمار والذي ألهب باستشهاده في معركة غير متكافئة ثورات الاستقلال في سورية، والأمة خصوصاً حين أصرّ العظمة ( وزير دفاع الحكومة العربية في دمشق) أن يخوضها ضد الجنرال الفرنسي غورو وجيشه "العرمرم" ويستشهد فيها..
وكما كان الكثير من أبناء الأمّة يزورون ضريح جمال عبد الناصر في منشية البكري في القاهرة، كلما زاروا مصر، كان أيضاً الكثيرون من أبناء الأمّة، لاسيّما من لبنان، يزورون ضريح يوسف العظمة على الطريق القديم بين بيروت ودمشق كلما زاروا سورية.. مستذكرين أيضاً أبطالاً سوريين نفّذوا عمليات بطولية ضد المستعمرين في مصر كسليمان ونس الحلبي الذي اغتال الجنرال كليير قائد الحملة الفرنسية لاحتلال مصر في 14 يونيو/حزيران 1800، والضابط البحار جول جمّال الذي استشهد مع رفاقه المصريين في تفجيره للبارجة الفرنسية (جان دارك) على الساحل المصري أبّان عدوان 1956..
إنه نداء الوحدة والاستقلال والعدالة.. فهل من مجيب اليوم.