سليمان جودة يكتب:
لعل الحوثي يعي درس الغنوشي!
لا تختلف جماعة الحوثي في اليمن عن جماعة الغنوشي في تونس، وإن اختلفت هذه عن تلك، فمن حيث الدرجة، لا من حيث النوع!
ومنذ البداية كان واضحاً أن حركة النهضة الإسلامية التي يرأسها راشد الغنوشي، تمشي على خطى جماعة «الإخوان» الأم في القاهرة، حتى لو كانت قد راحت من جانبها تنفي ذلك وتخفيه، ولو كانت قد راحت تتصرف أمامنا حسب مذهب التقية الشهير، الذي يجعل صاحبه يبدي وجهاً على الناس بخلاف الوجه الحقيقي الكامن بعيداً في الأعماق.
ولو أن أحداً عاد يتعقب خطوات جماعة الغنوشي في وقت سقوط جماعة «الإخوان» في القاهرة 2013، فسوف يتبين له أنها كانت تبدو وقد استوعبت درس السقوط «الإخواني»، وأنها كانت ترى ما حدث جيداً وتتابعه، وتتمنى ألا تدور عليها ذات الدائرة في أي يوم!
أقول إنها كانت تبدو كذلك، لأن ما بدا أمامنا سرعان ما بدا يتحول مع مرور الوقت، وسرعان ما اكتشفنا أن ما بدا منها كان كأنه السراب في قلب الصحراء، الذي ما إن تقترب منه وتدقق فيه النظر، حتى يتضح لك أنه ليس كما لاح أمامك من بعيد.
وكانت البداية في اللحظة التي قررت فيها حركة النهضة ترشيح عبد الفتاح مورو، نائب رئيسها، في سباق الرئاسة أمام المرشح قيس سعيد، الذي فاز في النهاية رغم أنه قياساً على مورو، لم يكن وقت ترشحه معروفاً لدى الرأي العام التونسي، فلقد كان نائب رئيس الحركة هو الأشهر، وكانت صورته مألوفة وأفكاره معروفة عند قطاعات واسعة من التونسيين.
ولم تكن جماعة الغنوشي تلعب وهي ترشح عبد الفتاح مورو، ولكنها في ظني كانت تعرف ماذا تفعل، وكانت تدفع بنائب الرئيس إلى السباق الرئاسي، وهي تعلم تماماً أن فرص فوزه ليست قائمة، وأن وجوده في غمرة السباق هو وجود شكل أكثر منه وجود مضمون، وأنها كمن يستوفي أوراقه في مسابقة يعلم مسبقاً بينه وبين نفسه أنه لا نصيب له فيها، ولكنه بينه وبين نفسه أيضاً يريد أن يقوم بما يجب أن يقوم به حتى لا يستشعر الندم أو التقصير في لحظة من اللحظات!
هكذا كانت الحركة تفكر، وهكذا كانت تلعب بأوراقها التي تراها متاحة في يديها، وهكذا كانت توزع أوراقها على منصة اللعب في ساحة السياسة.
كانت تفكر بهذه الطريقة لأنها لم تكن تريد منصب الرئيس، وهي لم تكن تريده على سبيل الزهد في المناصب، ولكن لأنها كانت تدرك أن الدستور القائم الذي سيعمل الرئيس المنتخب وفق مواده وحسب قواعده لا يعطيه كثيراً من الصلاحيات، ولا يجعله قادراً على أن يتخذ قرارات من نوع ما كان الحبيب بورقيبة يتخذها في وقته، ولا بالطبع من نوع ما كان زين العابدين بن علي يمارسه في مرحلة لاحقة.
كان الدستور يعطيهما ما يجعلهما قادرين على اتخاذ قرارات حقيقية كبرى، أما الدستور الحالي في مرحلة ما بعد ثورة الياسمين، فإنه أخذ من رصيد الرئيس وأضاف إلى رصيد رئيس الحكومة، وانحاز إلى ساكن قصر القصبة حيث مقر رئيس الوزراء، على حساب ساكن قصر قرطاج حيث يعمل رئيس الجمهورية.
ولم يكن غريباً والحال هكذا، أن تعيش تونس في ظل هذا الدستور في حالة من الصراع بين القصرين ألقت بظلالها بالسلب على حياة الناس.
كانت حركة الغنوشي تقرأ الدستور مبكراً وتعرفه، ولذلك وزعت كروت اللعب السياسي على أساس هذه المعرفة، فرشحت مورو في سباق قصر قرطاج، ثم رشحت الغنوشي في سباق البرلمان، الذي على أساس الأغلبية أو الأكثرية فيه تتشكل أي حكومة.
وبالفعل فاز رئيسها بالعضوية في البرلمان، وبالفعل فازت هي بالأكثرية بعد أن فاتها تحقيق الأغلبية، وحين فكر الغنوشي في الترشح لرئاسة البرلمان، فإنه فاز بها بالسهولة نفسها التي حصل بها على العضوية، وصار على رأس برلمان تونس يشاكس في الرئيس في قرطاج، ويستخدم أكثريته في المجيء بالحكومة الجديدة وربما في إسقاطها عند اللزوم.
وقد فاته أنه إذا كان صاحب أكثرية، فإن أكثريته قد تعطيه ميزة سياسية ليست لدى أي طرف سياسي آخر ينافسه، ولكنها أبداً لا تمنحه حق الاستحواذ على البرلمان، ولا حق السيطرة على الحكومة، ولا حق الحديث باسم التونسيين كافة، ولا حق الكلام مع أطراف أجنبية على أساس أن حركته صاحبة الأمر والنهي وصاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في البلاد.
وبقدرة قادر تحول مبدأ المشاركة الذي بدا من جانب «النهضة» إزاء بقية الأحزاب في مرحلة ما بعد سقوط «إخوان» القاهرة، إلى مغالبة صارت تميز كل خطواتها مع شركائها في الملعب السياسي، ولم تعد ترى سوى صالحها في حدوده، ولم تعد تفكر إلا في وضع البلاد في قبضتها!
والأهم الذي ما كان يجب أن يفوت إدراكها، أنها جماعة ضمن جماعات سياسية غيرها في تونس، وأن لها في البلد مثل ما لهذه الجماعات، وأن تغولها في البلاد لن يفيد في النهاية في شيء، وأنها لا يمكن أن تبتلع الدولة في بطنها، وأنها إذا جربت ذلك وابتلعتها بالفعل، فإن معدتها سوف تعجز عن هضم ما ابتلعته، لأنه ليس من منطق الأشياء أن تبتلع الجماعة دولة، مهما كانت الدولة صغيرة ومهما كانت الجماعة كبيرة، فالدولة دولة في كل الظروف، والجماعة داخل الدولة هي جماعة في كل الحالات، وليس من الوارد أن تكونا سواء.
ولو تلفتت هي حولها لترى، لكانت قد رأت درس «إخوان» البنا في القاهرة، باعتباره الدرس الحي الأقرب، وباعتباره الدرس الأقوى لمن شاء أن يعي!
وليس أكثر من الفرص التي لاحت أمام جماعة الغنوشي لعلها تعي هذا الدرس، وليس أكثر من المناسبات التي تأزمت فيها الأمور وتعقدت، لولا أن الغنوشي على رأس جماعته لم يشأ أن يعي، ولو كان قد وعى لكان قد وفر على نفسه وعلى بلاده كثيراً مما تجد نفسها في مواجهته اليوم.
وفي اللحظة التي قرر فيها الرئيس سعيد إقالة الحكومة وتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، كان المعنى أن على الجماعة أن تعود إلى حجمها كجماعة، وأن للدولة أن تحضر كدولة تمارس مسؤوليتها على أرضها وفي حياة مواطنيها.
إن جماعة الحوثي مارست ولا تزال تمارس في اليمن، ما كانت جماعة الغنوشي تمارسه بالتوازي في تونس، وإذا لم يتعلم الحوثي مما جرى في تونس، وقبله مما جرى في القاهرة، فلن يتعلم من شيء ولا من أحد، وستستيقظ جماعته ذات نهار على آحاد اليمنيين يدمرون مقراتها كما دمر التونسيون مقرات متفرقة لجماعة النهضة في أنحاء البلاد.
تونس ليست اليمن بالتأكيد، والشعوب تصبر ويطول صبرها، ولكنه ينفد في وقت من الأوقات، فيتكرر في اليمن ما جرى في تونس، كما تكرر في تونس ما عاشته القاهرة.