إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):
التفسير الاجتماعي والتأويل اللغوي
1- تفسير الظواهر الاجتماعية يرتبط بتأويل الرموز المعرفية في اللغة.وكُلُّ مُجتمع إنساني لا يعيش داخل اللغة، سيجد نَفْسَه بلا هُوِيَّة ولا بَصْمَة ، وهذا يعني أنَّ إيقاع الحياة اليومية سيعيش في الفراغ ( خارج الزمان ) ، وتاريخ التحولات الشعورية سيعيش في العَدَم ( خارج المكان ) . لذلك ، يجب على الإنسان إعادة اكتشاف اللغة ، لَيس مِن أجل إكمال نَقْصِه أوْ توسيع أُفُقه فَحَسْب، بَل أيضًا مِن أجل تكوين منظومة وجودية قادرة على تكوين الدَّلالات اللغوية في الأنساق الاجتماعية ، وتفجيرِ الطاقة الرمزية في اللغة ، كَي تصبح اللغةُ قادرةً على توليدِ الأزمنة والأمكنة باستمرار ، وتأسيسِ قواعد منهجية لتفسير الظواهر الاجتماعية ضِمن صَيرورة ثقافية ، تستطيع تحويلَ الشكل إلى مَضمون، وإحالة المَضمون إلى مُستويات الوعي الفردي والجماعي . وعمليةُ ارتباط المَضمون بالوَعْي تُجسِّد فلسفةَ اللغة رمزيًّا واجتماعيًّا ، لأن هذه العملية هي التي تُشكِّل نظامَ المعرفة الإنسانية الذي يتكوَّن مِن المَعْنى والوَعْي بالمَعْنى . وهذه الثنائيةُ الفكرية تُمثِّل مركزَ الظواهر الاجتماعية ، الذي يُحوِّل الطاقةَ الرمزية في اللغة إلى كُتلة إنسانية في المجتمع .
2 - الأُمُّ هي التي تُربِّي ، ولَيست التي تُنجِب . وكذلك اللغة هي التي تُوظِّف الأُسَسَ المعرفية في سِياق الفِعْلِ الاجتماعي والشَّرْطِ الإنساني ، ولَيست التي تُنجِب الألفاظَ الخاليةَ مِن الشُّعور ، والمعاني العاجزةَ عن الامتداد والدَّيمومة . وسببُ عَجْز الإنسان عن معرفة نَفْسِه ، يَرجع إلى عَدم قُدرته على مَعرفة اللغة ، فهو يَعتبرها مَجموعة من الألفاظ، ووسيلة للتخاطب لقضاء الحاجات اليومية . وهذه هي قِشرة اللغة الخارجية ، ولكن اللغة شديدة العُمق ، والسابح إذا استهانَ بالبحر سَيَغرق . ورحلةُ الإنسان إلى معرفة اللغة رُوحًا وجسدًا ، لا تتأتَّى إلا بالاستعداد للغَوص في الأعماق ، وعدم الاكتفاء بِمُلامَسَة السَّطْح . وعلاقةُ الإنسان معَ اللغة هي عملية تنقيب مُستمرة ، وكُلُّ انقطاع يُمثِّل فَجْوَةً في مسار التفسير الاجتماعي ، وثَغْرَةً في مَجال التأويل اللغوي .
3 - تفسيرُ الظواهر الاجتماعية يعتمد على إيجاد الأفكار القادرة على حَمْل التفاصيل اليومية المُعاشة ، وإيصالها إلى حرارة التجربة الإنسانية ، مِن أجل بناء أنساق معرفية قادرة على التعامل مع اللفظ اللغوي حقيقةً أوْ مَجَازًا ، وتوظيفه في المَعنى الاجتماعي العام ، والتحررِ من ضغط العناصر الزمانية ( وذلك بنقل الماضي إلى الحاضر ، والانطلاق إلى المستقبل ، وبذلك يكون الماضي شرعيةً وُجوديةً ، وقُوَّةً دافعةً إلى الأمام ، ولا يَكون مشروعًا للهُروب وعِبئًا ثقيلًا ) ، والتحررِ من ضغط العناصر المكانية ( وذلك باستعادة الحُضُور وانتزاعه من الغياب ، ونقل مَاهِيَّةِ العَدَم إلى هُوِيَّةِ الوجود ، والانطلاق مِن نَفْي المعنى الحضاري إلى إثباته . وبذلك تكون الحياةُ شهادةَ مِيلاد للوُجود المُتجدِّد ، ولَيست هاويةً مُرتبطةً بالمأزق الوجودي ) . والظواهرُ الاجتماعية حِين تتكرَّس في اللغة ، فهذا دليل على تفسير الواقع والوقائع وإيجاد رواية منطقية للأحداث ، ولَيس فُرصةً للهُروب من تحدِّيات الحياة اليومية . وكما أنَّ اللفظ اللغوي يَكشف عن المُراد الاجتماعي ، كذلك التاريخ الإنساني يَكشف عن مركزية اللغة في الوجود، ودَوْرِها المِحوري في التَّفريق بين الحَياةِ الحقيقية والحياة الوهمية ( المَوت في الحياة ) .
4 تأويلُ الرموز المعرفية في اللغة يعتمد على التراكيب الفكرية الإنسانية ، والمعاني المُستمدةِ مِن باطن الأشياء ، وحقيقةِ المُراد . والعلاقةُ بين التأويلِ كأداة معرفية واللغةِ كنظام وجودي ، تقوم على استنباط الوَعْي المُسْتَتِر والفِكْرِ الكامنِ والثقافةِ الخَفِيَّةِ . ويَستند التأويلُ اللغوي إلى السِّياق الاجتماعي وأُسلوبِ حياة الإنسان ( طريقة تفكيره وتعامله مع العناصر المُحيطة به ، وزوايا الرؤية إلى الأشياء جُمْلَةً وتفصيلًا ) . لذلك ، ارتبطَ المجتمعُ بالتَّفسير ، وهو كشف المَعنى الواضح القائم على الاتِّباع، والمُستفاد مِن العِبَارة ( النَّسَق الظاهري ) ، وارتبطت اللغةُ بالتأويل ، وهو كشف المعنى الغامض القائم على الإبداع ، والمُستفاد مِن الإشارة ( النَّسَق الباطني ) . وإذا أدركَ الإنسانُ الفروقات العميقة بين التفسير والتأويل في الخيال والواقع والمشاعر والأفكار ، فإنَّه سيعرف تفاصيل الظواهر الاجتماعية ، ويَستوعب رمزيةَ اللغة .