وهذه القمة الرباعية بين بايدن ورئيس وزراء كل من أستراليا (سكوت موريسون) والهند (نارندرا مودي) واليابان (يوشيهيدي سوغا ) ستسمح كما يقول معظم المحللين هنا في واشنطن بتعزيز الروابط وتعميق التعاون سواء على صعيد مواجهة وباء كوفيد-19 أو على صعيد مكافحة التغير المناخي لكن هناك ولا شك أهداف أخرى لهذه القمة حيث ان هذه الدول لم يعد بإمكانها الوقوف على مسافة واحدة ما بين الصين وأميركا بل إن أميركا تهدف في الأساس من هذا الاجتماع الرباعي أن يلتزم الشركاء الأربعة بجعل "منطقة الهند - المحيط الهادئ مفتوحة وحرّة" وهي عبارة عن دبلوماسية معتمدة للتنديد بالتطلّعات الإقليمية الصينية.. والسؤال المطروح هنا.. ماهي تلك الأهداف التي أرادها بايدن من خلال إصراره على هذه القمة؟
بداية أقول إن الرئيس بايدن يأمل على الأرجح من خلال هذه القمة المرتقبة في استعادة زمام المبادرة بعدما عانى صعوبات جمة خلال هذين الشهرين على الصعيد الوطني والدولي بسبب الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، وهو يُدشن بهذه القمة -حسب اعتقاده- جولة دبلوماسية جديدة يسعى من خلالها لترميم صورة بلاده وإدارته بعد الانتكاسة التي مُنيت بها في أفغانستان، وذلك تزامنا مع استمرار الضغوط الداخلية التي تواجهها إدارته بسبب الانسحاب الذي أنهى أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة وهزت صورتها دوليا بشكل كبير وتلك صعوبات لا تزال موجودة حيث تتعالى الأصوات المنددة بخطط هذا الانسحاب حيث خلفت الطريقة الأحادية التي أنهت فيها الولايات المتحدة حرباً استمرت عشرين عاما في أفغانستان كما قلنا أثرا سلبيا لدى بعض حلفاء الولايات المتحدة ومنهم بالطبع الهند التي يشارك رئيس وزرائها (ناريندرا مودي) في هذه القمة كما سيلقي كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 25 سبتمبر وهذه الزيارة ستكون الأولى التي يقوم بها مودي إلى الولايات المتحدة منذ أن تولى الرئيس جو بايدن منصبه مطلع هذا العام.. كما سيصبح هذا الاجتماع أول لقاء (شخصي) بين مودي وبايدن، وكان الزعيمان قد التقيا في ثلاث مناسبات على الأقل: قمة الرباعي في مارس، وقمة تغير المناخ في أبريل، وقمة مجموعة السبع في يونيو من هذا العام لكن ومع تطور الوضع في أفغانستان بشكل سريع، تكتسب زيارة مودي أهمية خاصة، إلى جانب أن الرئيس جو بايدن يسعى إلى تعزيز تحالفات الولايات المتحدة مع الهند وغيرها في وجه الصين.
لقد لاحظنا جميعاً منذ الحملة الانتخابية أن الرئيس بايدن قد حدد معالم سياسته الخارجية حتى قبل انتخابه، وهي معالم تنطلق من التحول نحو منطقة آسيا والمحيط الهادي التي تم التأسيس لها في استراتيجية أوباما الثانية للأمن القومي.. وقد بدأ الرئيس بايدن بالفعل في تطبيق استراتيجية احتواء الصين منذ لحظة انتخابه، وحتى دون أن يصدر استراتيجيته الجديدة للأمن القومي، وهو الأمر الذي اتضح مع التصريحات القوية المهاجمة للصين، ومع الزيارات التي قام بها أقطاب الإدارة الأميركية الجديدة، واللقاءات التي عقدها الرئيس بايدن بنفسه مع دول محورية في تلك المنطقة.
وهنا يرد سؤال هام عن فحوى الإستراتيجية التي ينتهجها بايدن عادة خلال دعوته لعقد القمة.. وأقول هنا إن الاستقراء للأشهر الماضية من حكم بايدن يوضح أن استراتيجيته في هذا الشأن تنطلق من النقاط التالية:
النقطة الأولى: تكمن الحتمية الاستراتيجية وراء القمم التي يعقدها الرئيس الأميركي في صياغة رد غربي موحد تجاه الصين. وخلال الأشهر المنقضية بعد بعض تلك الاجتماعات، اتضح أنه نجح في ذلك حيث أصبحت الولايات المتحدة وفرنسا (هذا إذا اغفلنا ما قد يطرأ بسبب الأزمة الناشئة) وألمانيا الآن أساساً متفقة فيما بينها. إذ تدرك كل واحدة منها أن الاتفاق الدولي الواسع النطاق ضروري لإقناع الصين بالحد من سلوكها العدواني. فقد كشفت تصريحات الرئيس الصيني (شي جين بينغ) بمناسبة الذكرى المئوية للحزب الشيوعي الصيني عن الموقف الصيني. وحذر من أن أي محاولة للتدخل في صعود بلاده ستؤدي إلى "ضرب الرؤوس بسور فولاذي عظيم".
النقطة الثانية: في آسيا أدت الحتمية الاستراتيجية لإدارة بايدن إلى التركيز أكثر على "رباعية" ديمقراطيات آسيا والمحيط الهادئ وهي: أستراليا، والهند، واليابان، والولايات المتحدة وقبل فترة أجرت الولايات المتحدة واليابان مناورات بحرية مشتركة للاستعداد لأي عدوان صيني على تايوان. وفي أوروبا، وضع كل من الناتو والاتحاد الأوروبي مسألة الصين في قمة جدول أعمال السياسة بعد محاولتهما سابقاً تجنب الالتزامات بقضايا "خارج المنطقة".
النقطة الثالثة: من تلك الإستراتيجية أيضا محاولة بناء تحالفات إضافية حول الذكاء الاصطناعي ومنصات التكنولوجيا المستقبلية مع الحلفاء والشركاء فقد دعت لجنة الأمن القومي المعنية بالذكاء الاصطناعي إلى إنشاء تحالف يتكون من الديمقراطيات المتقدمة لمزامنة السياسات والإجراءات حول الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الناشئة وتُشكل الشراكات بين الحكومات والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية ميزة رئيسة تتمتع بها الولايات المتحدة والعالم الديمقراطي للتغلب على المنافسين. ولكن يتعين على الولايات المتحدة بذل المزيد من الجهود لحشد الحلفاء حول قضية مشتركة وهنا تسعى الولايات المتحدة لخارطة طريق للمجتمع الدولي "الديمقراطي" للفوز في المواجهة مع الصين عبر استخدام الهياكل الدولية القائمة – بما في ذلك منظمة حلف شمال الأطلسي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومجموعة الدول السبع، والاتحاد الأوروبي – لتعميق الجهود الرامية إلى التصدي لجميع التحديات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الناشئة.
في الخلاصة يستعد الرئيس بايدن لاستضافة أول قمة شخصية على الإطلاق لزعماء ما يسمى ببلدان مجموعة الأربعة - الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا - في علامة على النشاط المتزايد وراء ما بدأ كدفعة في عهد ترامب لتجميع أقوى الديمقراطيات في آسيا، في تجمع (أكثر رسمية) لمواجهة واحتواء الصين الشيوعية وهو تحول أميركي متسارع في التركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ بعد عقود من الحروب ومن التركيز على الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط وأفغانستان ولا شك أن الرئيس بايدن سيبدأ في هذه القمة بشكل أساسي من المكان الذي توقف فيه مسؤولو إدارة ترامب من خلال احتضان الرباعية كأداة مركزية للتحول الاستراتيجي وتبقى القناعة الصينية بعدم جدوى هذه الرباعية التي يقولون عنها أنها "محكوم عليها بالفشل" لأن أعضائها متحدون فقط بقدر ما يجابهونه من تحدي من جانب بكين...لكن خبراء التقيتهم هنا في واشنطن واحدهم دايفيد شنكر مساعد وزير الخارجية السابق يقولون إن التوافق الاستراتيجي للولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا يتوسع بشكل علني وسريع وستبقى الحرب التجارية التي اشتدت فصولها بين الصين والولايات المتحدة تكشف عن سلسلة طويلة من المشاحنات على المستويين السياسي والاقتصادي لا تشكل القمة الرباعية المرتقبة سوى فصل من فصول تلك الحرب.
