كرم نعمة يكتب:
أنصار القذافي تعبير يضر بمستقبل ليبيا
كان الليبيون يطلقون تعبير “فرخ زايط” على أي من الهتّافين والمروجين لسياسة معمر القذافي في أوج سنوات سطوته، في دلالة دارجة عن الأشخاص المهرجين والانتهازيين ممن فقدوا صوابهم.
يحمل التعبير من السخرية وعدم المبالاة بهم، بقدر الفهم المسبق بتجنب مجادلة أولئك الهتّافين للعبث السياسي للقذافي بوصفه تحديا للاستعمار والقوى العظمى، مع أن أغلبه لا يخرج عن كونه مجرد لغو. في النهاية كان أي حوار مع أولئك ممن فقدوا صوابهم يمثل جهدا خاسرا. ليس لأنهم لا يتراجعون عن صلف محبتهم الانتهازية للقذافي التي تصل إلى الهمجية أحيانا، بل لأن مثل هذا الحوار مع “الفروخ الزايطة” لا يقود إلى حديث واقعي عن المفاهيم السياسية وبناء الدولة في ليبيا آنذاك.
تجربة الليبيين مع محبي القذافي، منحتهم درسا مفيدا يشتركون جمعيا في الاعتماد عليه والاستفادة منه، بأن كل من كان يعلن بشكل متطرف محبته للقذافي غير صادق مع نفسه، ويدرك أنه في هذا الموقف يتحرك بطريقة انتهازية محضة.
هذا الأمر، لا علاقة له بالشعور الوطني لليبيين تجاه مواقف بلدهم آنذاك، فهم مثلا يقدرون بعض مواقف القذافي السياسية خصوصا ما يتعلق منها بالعالم العربي، بنفس الدرجة التي كانوا فيها يتهكمون بمرارة وسخرية معا على أكاذيبه وسلطته القمعية وانفتاحه الفاشل على أفريقيا.
بعد أيام من سقوط نظام القذافي، وقبل أن يعلن عن مقتله بنفس الطريقة المتوحشة التي كان يمارسها مع معارضيه. تحدثت مع أحد الأصدقاء من الذين تقلدوا مواقع سياسية في نظام الزعيم الليبي، من أجل الاطمئنان عليه وعلى أسرته. فوجدته أكثر تمسكا بـ”النظام الجماهيري”! متذرعا بأنه في كل ذلك ليس دفاعا عن القذافي، بل من أجل ألا تسقط ليبيا في هوة العمالة والجحيم. لطالما كان صديقي هذا يتهكم أمامي على العبثية الكامنة في أفكار ذلك النظام الذي يتقلد فيه منصبا سياسيا مهما.
مات صديقي الليبي كمدا ومرضا بعد أشهر من سقوط نظام الزعيم القتيل، بعدما وجد في القذافي حلا بعد مقتله! كمعادل سياسي للنماذج الأسوأ من القذافي التي استحوذت على البلاد بعده.
هل هذا يعني أنه ومع الآلاف غيره يمكن أن نصنفهم وفق الجملة التي بدأت سائدة اليوم في ليبيا “أنصار القذافي”؟
أرى أن هذا التعبير غير دقيق، إن لم يحدث ضررا لدى المهتم بالشأن الليبي في العالم العربي والعالم، كما أنه يصل متأخرا لفهم ما يحدث في ليبيا اليوم.
فمن يطلق عليهم من أنصار القذافي أو النظام الجماهيري وثورة الفاتح من سبتمبر، خصوصا بعد التكهنات التي تحولت إلى أخبار عن ترشح سيف الإسلام القذافي في الانتخابات الرئاسية، لا ينطبق عليهم هذا التوصيف، بمن فيهم الشاعر علي الكيلاني الذي كتب أروع أناشيد التمجيد لأفكار القذافي، ويمت له بصلة قرابة. سيف الإسلام الوحيد من أسرة القذافي الذي بقي يراوده الطموح السياسي، لكن المؤشرات الواقعية لما يحدث في البلاد المنقسمة على نفسها لا تمنحه أي فرصة. وأرى أنه يدرك بأن من المستحيل عليه ممارسة دور المنقذ بعد أن كان جزءا من الانهيار.
نعم، إن هؤلاء الليبيين، وفق التقويم الواقعي، وقفوا مع النظام ضد من خضع للناتو لإسقاطه، لكنهم في كل ذلك، كانوا يقفون ضد من استعان بالأجنبي على بلاده وليس دفاعا عن القذافي نفسه. بقي مثلا أحمد قذاف الدم يردد جملته بعد أن نجا من المذبحة بأن من حق الليبيين أن يثوروا على القذافي، لكن من المعيب عليهم التعاون مع الناتو لتدمير بلدهم.
التوصيف المتصاعد عن وجود قوة شعبية من أنصار النظام السابق مستعدة للدخول على العملية السياسية وتغييرها وفقا لقوانين السياسة اليوم، فكرة غير صحيحة عندما ترتبط بالنظام السابق. لكنها ستصبح واقعية ومفهومة عندما تكون هذه القوة معبرة عن الازدراء الليبي للقوى الحاكمة والميليشيات المسيطرة على البلاد.
ثمة أرقام تتحدث عن وجود 50 – 70 في المئة من الليبيين يمكن أن يصنفوا اليوم على أنصار القذافي، وبغض النظر عن المبالغة العددية، فإنه لو وجد هذا الرقم فعلا فإنهم في حقيقة الأمر يعبرون عن الرفض الليبي للواقع السياسي القائم أكثر من أي تفسير آخر متعلق بالقذافي نفسه.
فعلى الرغم من ضخ 1.2 مليون برميل من النفط يوميا إلا أن الكهرباء لا تزال تنقطع لساعات طويلة عن المدن الليبية والتضخم آخذ بالارتفاع. وبالنسبة إلى معظم سكان ليبيا البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة، فإن الازدهار والأمن، ناهيك عن الديمقراطية، هما سراب بعيد المنال.
لذلك أرى أن تقديم التظاهرات الشعبية في سرت أو بني وليد التي ترفع العلم الأخضر وتستذكر مقتل القذافي بطريقة وحشية، وصعود أي ممن يحسبون على نظام القذافي المنهار سواء ممن تقلد مسؤوليات سابقة، أو ممن لم يتراجع عن تأييده، في أي استحقاقات انتخابية مقبلة، ليس لأنهم قدموا أنفسهم كـ”قذافيين” بل لأن الليبيين لم يعودوا يثقون بالمجاميع الحاكمة منذ عشرة أعوام.
في حقيقة الأمر، لا توجد نسبة مؤثرة من الليبيين مقتنعة بسياسات القذافي إبان سطوته، فكيف لها أن تؤثر بعد عقد من انهياره. والحنين إلى الماضي لا يعتد به في تغيير الجغرافيا السياسية، بقدر ما يوضع في مدونة التاريخ لاستلهام الدروس منه.
إذا كان تصنيف الليبيين إلى مؤيدين للثورة أو مؤيدين للقذافي قد ساد عام 2011، فإنه لا يبدو واقعيا بعد عشرة أعوام لأن التقسيمات مستمرة في طبيعة المجتمع الليبي القائم على إقصاء فكرة العمل الجماعي، فشاعت بعدها تقسيمات الشرق والغرب مع القتال بين قائد الجيش الليبي خليفة حفتر في بنغازي والحكومة المركزية برئاسة فايز السراج في طرابلس. علينا ألا ننسى أن تقسيمات الأقاليم طرابلس وبرقة وفزان، أقوى من إزالتها من مدونة التاريخ، دعك من التقسيمات القبلية الأسوأ في المجتمع الليبي. لكن تقسيم الشعب الليبي اليوم بين أنصار ولا أنصار القذافي لا يعبر عن حقيقة ما يجري في ليبيا. فالمشهد أكثر تعقيدا من شخصية القذافي نفسه!