الحبيب الأسود يكتب:

قرداحي وآخرون: القومية عربية والروح فارسية

لم أستغرب ما ورد على لسان وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي من انحياز كامل لميليشيات الحوثي وتحامل مبالغ فيه على السعودية والإمارات، فمثل تلك المواقف أصبحت موضة بين النخب في أغلب الدول العربية، وبخاصة بين من يزعمون الثورية والتقدمية، ومن يتبنون الأيديولوجيات الفكرية والعقائدية المتطرفة يمينا ويسارا، ومن يرقصون على دفوف الطائفية والمذهبية المقيتة، أو يدورون في فلك المشاريع الإمبراطورية التوسعية الإيرانية والتركية.

قرداحي، يعتبر نفسه من رموز “الممانعة” الثقافية والإعلامية، ولاسيما بعد أن أصبح من صنّاع الرأي العام من خلال وظيفته الأصلية كمذيع وصل إلى مرتبة الصدارة بين أشهر وأغلى نجوم الإعلام الخليجي، السعودي بالأساس. والحقيقة أن لا أحد يمكنه أن يشكّ في جدارته بالنجاح والنجومية والعقود الضخمة التي كان يحظى بها، كما لا أحد يمكن أن ينازعه حقه في التعبير عن آرائه ومواقفه، ولكن واجب التحفظ قد يكون الحل المناسب عندما يتعلق الأمر بجهات يفترض أن لها أيادي بيضاء عليه.

من خلال “برلمان الشباب”، وهو إحدى منصات شبكة “الجزيرة” الإخبارية القطرية، تم جر قرداحي ليعلن موقفه من الأزمة الدائرة رحاها في اليمن، ويقول إن “الحوثيين يدافعون عن أنفسهم في وجه اعتداء خارجي”. وعندما سئل عما إذا كان يعتقد أن ما تفعله السعودية والإمارات هو اعتداء على اليمن قال “إن هناك اعتداء بالتأكيد وإن الحرب في اليمن حرب عبثية يجب أن تتوقف”، وقد كان واضحا أن فريق إنتاج المقابلة هدف للوصول إلى تلك النتيجة، وسعى من أجل تحقيقها، وأن قرداحي ممتلئ بشعارات حزب الله المعادية للسعودية والإمارات، والمدافعة بكل قوة عن ميليشيات الحوثي إلى حد القتال في صفها ضد الشرعية وضد الهوية العربية لليمن.

لم يكن لبنان في حاجة إلى المزيد من التأكيد على أنه دولة مختطفة من قبل حزب الله وحلفائه ممن يريدون انتزاعه من جذوره العربية ليكون مجرد عربة في قطار الأطماع الفارسية

تم ترشيح قرداحي لمنصب وزير الإعلام من قبل تيار المردة بزعامة سليمان فرنجية، ووجد ذلك هوى لدى الرئيس عون والتيار الوطني الحر، ولاسيما أن قرداحي معروف بدورانه كمتصوف في حلقة حزب الله، وبانتمائه إلى الطيف المسيحي المتحالف مع القوى الشيعية المرتبطة عقائديا وسياسيا بالمشروع الفارسي الإمبراطوري التوسعي الذي يناصب دول الخليج العداء، ويعمل على محاصرتها عبر تمدده في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وقرداحي هو نموذج من فئة منتشرة في المنطقة العربية، تدعي اعتناق الفكر القومي العربي، وتتحالف ضمنيا مع أعداء العروبة، وتقف في صفهم بزعم الانتماء إلى محور المقاومة الذي تحول إلى حصان طروادة لاختراق المنطقة.

فالبعث كما هو معلوم بعثان؛ أحدهما وهو السوري يكاد يكون قوميا فارسيا واشتراكيا على مذهب الملالي، فيما حافظ البعث العراقي على وعيه العميق بطبيعة الصراع القومي التاريخي مع النزعة الإمبراطورية الفارسية التي كانت دائما تحمل مشروع التوسع على حساب العرب، وقد ألبسته خلال العقود الماضية جلباب الطائفية المقيت سيرا على نهج إسماعيل الصفوي الذي كان وراء فرض التشيّع على الإيرانيين، ليجعل منه غطاء لمشروعه القومي العابر للحدود.

كما يبدو أن الناصريين انقسموا على أنفسهم، وأصبح جزء غير يسير منهم يدور في فلك المشروع الإيراني، بزعم الانخراط في محور المقاومة، وبدعوى الوقوف ضد الرجعية العربية، في إشارة إلى الدول التي اختارت العلاقات مع الغرب منذ خمسينات وستينات القرن الماضي، ونأت بنفسها عن الصراعات في إطار الحرب الباردة التي كانت قائمة بين واشنطن وموسكو زمن الاتحاد السوفييتي المندثر، والتي صبّت كل اهتماماتها على شؤونها الداخلية، ولم تعتمد على تجييش المشاعر بالشعارات التي ثبت على امتداد العقود الماضية أنها جوفاء، وفي زمن الامتحانات الصعبة تبين أنها الوحيدة التي استطاعت الصمود والحفاظ على دولها الوطنية، بل إن دول الخليج التي يتهمها أدعياء التقدمية الزائفة بالرجعية هي التي حققت أعلى درجات النمو، وحققت الرفاه لشعوبها، وحققت النماء لمجتمعاتها، وقدمت المساعدة والدعم لمن عصفت بهم رياح الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية.

كما أن ما كانت توصف بالدول الرجعية لم تنخرط في جبهة الصمود والتصدي التي تشكلت للرد على اتفاقية كامب ديفيد في العام 1977، وكانت تضم كلّا من ليبيا التي انتهت إلى حرب وانقسامات ومؤامرات وخيانات، وسوريا التي واجهت احترابا أهليا غير مسبوق، وتعرض الملايين من أبنائها للقتل والتشريد والتدمير النفسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي ولا تزال أجزاء من أراضيها تحت احتلالات مختلفة، والعراق الذي تعرض للحصار القاتل ثم إلى الغزو المدمّر فإلى التقسيم الطائفي وعبث الإرهاب وسيطرة الميليشيات وعنجهية الحشد الشعبي، والجزائر التي واجهت عشرية دموية وخرّبها الفساد ولا تزال تحت سيطرة أوهام السيطرة على المنطقة، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي انتهت إلى الوحدة مع الشمال في العام 1990، ما جعلها تدخل لاحقا في دوامة الحروب والصراعات وصولا إلى وضعها الحالي المأزوم، ومنظمة التحرير الفلسطينية التي انتهت بدورها إلى عقد اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وإلى الانقسامات في داخلها، وإلى العزلة على أكثر من صعيد.

كثيرون هم أدعياء القومية العربية الذين يدافعون عن الحوثيين، وهم في الأصل يدافعون عن المشروع الإيراني، ولا يرون مانعا من فتح أبواب ونوافذ بلدانهم لاستقبال الغزاة الفرس بزعم الانخراط في مشروع المقاومة والممانعة، فيما يهاجمون دول الخليج العربي، وعندما تضيق السبل بدولهم لا تجد إلا تلك الدول لتمد لها يد العون والسند. ولعل اللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم يدركون مدى ما قدمت لهم السعودية وشقيقاتها، ولكن النزعة العدائية تجاهها ترتبط بغياب العقل وضبابية الرؤية والمفاهيم وبإرث الخمسينات والستينات، وبالعجز عن قراءة المستجدات الثقافية والحضارية على حقيقتها، فما توصف بالدول الرجعية هي التي أثبتت أنها تقدمية بنجاحها في خدمة شعوبها وتحديث مناهجها العلمية والعملية وتطوير أدائها الاقتصادي والاجتماعي وبتكريس عقلانيتها السياسية ومسابقتها للعصر في مختلف المجالات وعلى جميع الأصعدة.

استفاد قرداحي كثيرا من السعودية والإمارات، بل إن تجربته الحقيقية مع النجاح والنجومية كانت من خلالهما، ولو لم تبث "الجزيرة" ذلك الحوار ما كان لأحد أن يكتشف موقفه الحقيقي منهما، وحقيقة ولائه الكامل للمشروع الإيراني

استطاعت دولُ الخليج والأردن في المشرق والمغربُ في أقصى غرب المنطقة العربية أن تحافظ على بنيتها الوطنية للدولة وسلامتها الترابية، وهي من الدول التي طالما اتهمت بالرجعية، وحتى الدولتان “الرجعيتان” اللتان زارتهما عاصفة الربيع العربي وهما تونس ومصر، كانتا الأقل خسائر والأكثر قدرة على تجاوز الأزمات، فيما دخلت الدول “التقدمية” في تصدعات وانشقاقات وانهيارات، ولاسيما العراق وسوريا واليمن والسودان، ومع ذلك لا يزال الهائمون في صحراء الأيديولوجيات العقيمة يتاجرون بالأوهام، ويروجون للمفاهيم الثورية الصدئة، وبعضهم يتبنى القومية العربية ويضع البيض في سلة الإسلام السياسي بشقيه الشيعي المرتبط بإيران والسني المشدود إلى طموحات رجب طيب أردوغان.

لم يكن لبنان في حاجة إلى المزيد من التأكيد على أنه دولة مختطفة من قبل حزب الله وحلفائه ممن يريدون انتزاعه من جذوره العربية ليكون مجرد عربة في قطار الأطماع الفارسية، لكن تصريحات قرداحي جاءت لتصب الزيت على النار، ولتؤكد أن العداء للسعودية والإمارات بالذات بات عقيدة لدى البعض، ومصدر رزق لآخرين كثر، خاصة لمن يحاولون تقديم فروض الولاء والطاعة للإيرانيين والأتراك، وكذلك بعض العرب ممن لا يزال في قلوبهم مرض لا يسعون للتخلص منه، بل ولا يريدون، رغم ما يطلقون من وعود في الجلسات المغلقة.

حاول قرداحي تبرير موقفه بالقول إن هذه المقابلة أجريت في الخامس من شهر أغسطس الماضي، أي قبل شهر من تعيينه وزيراً في حكومة الرئيس ميقاتي، وتابع أنه لم يقصد بأي شكلٍ من الأشكال الإساءة للمملكة العربية السعودية أو الإمارات اللتين يكنّ لقيادتيهما وشعبيهما كل الحب والوفاء. ولكن، أي حب وأي وفاء إذا كان الأمر يتعلق بوقوفه مع الطرف المقابل في معركة مصيرية، بل هي معركة حياة أو موت. وعندما تحارب السعودية والإمارات فإنما تحاربان دفاعا عن وجودهما وعن أمنهما وعن أمن العرب القومي، أما الحوثي فقد كان المبادر بالانقلاب على الشرعية والانطلاق من حيز جغرافي في صعدة ليغزو صنعاء وليسيطر على مؤسسات الدولة ثم ليتمدد إلى كافة أرجاء اليمن بما في ذلك الجنوب، مندفعا بعقيدة مستوردة من إيران وغايته السيطرة على بحر العرب وخليج عدن ومنطقة القرن الأفريقي ومحاصرة السعودية من الجنوب وتهديد أمنها واستقرارها.

استفاد قرداحي كثيرا من السعودية والإمارات، بل إن تجربته الحقيقية مع النجاح والنجومية كانت من خلالهما، ولو لم تبث “الجزيرة” ذلك الحوار ما كان لأحد أن يكتشف موقفه الحقيقي منهما، وحقيقة ولائه الكامل للمشروع الإيراني من خلال دفاعه المستميت عن الحوثيين. وقد يكون هناك من يحملون نفس قناعات قرداحي، ولكن الثابت أنهم لن يغيروا الواقع ولن يحددوا ملامح المستقبل، ربما لسبب واحد وهو أن الدول القوية لا تهتم بالشعارات الجوفاء، ولغة العقل هي التي ستنتصر على مدغدغي المشاعر الخاوية، و”الرجعيون” عند ورثة الأيديولوجيات الصدئة باتوا الأكثر تقدمية في الرؤية والاستشراف والعمل وتحديد الأولويات والأهداف وصناعة الثورات الهادئة والتغيير الحقيقي الذي يؤثر إيجابا على حياة الشعوب والمجتمعات.