أحمد الجعشاني يكتب:
صاحبي.. البدوي
ظل متواري ومختبئ من أعين الناس، بعد خروجه من السجن، تغيرت اثار ملامح وجه الشاحب، وبهت كثيرا وهزل جسمه، حتى بانت عظام صدره.. من فتحة قميصه المترهل، فوق عظمة اكتافه البارزة .. وأحسست.. برعشة يده، وهو يصافحني، حين ذهبت إليه في منزله، كان لقاء فاتر وبارد، لم يتكلم معي كثيرا.. غير كلمة واحدة كيفك، ثم ظل صامت.. وهو ينفت الدخان، وهو متصاعد من فمه، إلى الأعلى، و بشراهة لم اعتاد ذلك منه من قبل... كلما حاولت التمعن و النظر اليه، طأطى رأسه.. مخفي وجهه إلى الأرض، لم.. يحب.. ان انظر إليه، وهو في حالة، من الضعف، والانكسار.. تداركت الموقف، و اختصرت اللقاء، وغادرت منزله مسرعا، لم احتمل ماحدث لصاحبي.. شعرت بالأسى والحزن!! وأنا أتذكر أول لقاء جمعني به، كان في مدينة عدن،الثغر الباسم، ايقونة الجنوب وسحرها، كنا في الكليه في السنه الاولى من الدراسه، كان اصدقائه ينادونه بالبدوي، رغم شكله وشخصيته لم توحي بذلك، او حتى انه من ابناء الريف، كان مميز عن بقية الطلبه، وسيم وحلو جدا، وملابسه انيقه، و عصريه وشيك، كان يشبه جون ترافولتا، بشعره ألاسود الطويل المسدل على وجه المستدير.. الا ان لقبه بالبدوي، لم يغضبه او يعيبه، اشتهر به في الكليه، وبين الطلبه، لم نكن.. أنا وهو اصدقاء.. الا في السنه الثانيه من الدراسة.. اقتربنا من بعض أكثر، كان لديه من السحر، والجاذبية التي تشدك اليه، غير وسامته واناقته، كان رجل بمعنى الكلمه.. كريم جدا وشهم، كما هي عادة أبناء الريف الاصيله، وفي أثناء الدراسه، كان الكل معجب به، ويحبه، حتى الأساتذة لم يخفو إعجابهم به!! كان مثال نادر في الأخلاق.. والنزاهة، ومساعدت الآخرين، وذلك قليل.. ماتجده في أبناء عدن، او ابناء المدن عامة،الذين اخذتهم المدينه بمضاهرها المدنيه، وحياة التمدن، والحضارة. بينما اختفت فيها الكثير، من العادات، والتقاليد، والقيم الاصيله، والروابط الاجتماعيه بين الناس.. بعد التخرج عملنا معا في نفس الإداراة.. بسرعة البرق، نال إعجاب الجميع، من المدير إلى الغفير، واصبح قريب جدا من المدير، بل كان هو الكل في الكل.. لكن ذلك لم يغير من شخصيته وطباعه الحميده.. الا نفر قليل، من الموظفين، الذين لايعجبهم شئ في الحياة، غير النميمه والحسد، حتى ولو كان عمله جيد و حسن، دائما ما كانو يتحدثون عنه امامي، صاحبك البدوي... عمل.. صاحبك البدوي.. سوى.. الا ان ذلك لم يغضبني، ولا يزعجني، لاني كنت اعرف صاحبي جيدا، واعرف حسدهم، وبغضهم منه، لانه ترقى، وصل الى اعلى السلم، في الوظيفه، قبلهم وقبلي، وتلك موهبة، وعطاء من "الله"، التى جعلت منه مميز عنا، في كل شئ، او قد تقول بلغة العصر، انها الكاريزما، والشخصيه الجاذبه، التى يلتف حولها الناس، وهي مواصفات، تكون موجوده فقط، عند قليل من الناس، امثال العظماء، والقادة، وهي سمه تولد بالفطره، وموهبه توجد مع الإنسان، "الله" يهبه لمن يشاء.. وتلك عظمة "الله". في خلقه.. وفي يوم دعاني" إلى مكتبه، وعرض علي السفر في دورة قصيرة، تمنح للموظفين كل سنه، كنت حينها لست متحمس للسفر، ولكنه أصر، وقال لى انها مفيدة، وفيها ترقيه وعلاوة، فوافقت.. كان ذلك آخر لقاء جمعني به.... بعدها.. كانت عدن في الفصل الاخير، من فصول الصراع الدامي، بين الرفاق، بعد مسلسل طويل من الصراع، التهم الصف الأول، من قيادات الاستقلال، فجأأت أحداث يناير، لتكتمل الصورة، بين أبناء الوطن، في تلك الحرب الداميه في عدن.. ومرة أخرى من بداية السطر، نقطة البداية، وخطوة الألف ميل، القبيله والمناطقيه !! وذلك المصير المجهول! الذي سار بنا، إلى نفق الظلام الاسود الجاثم، وقطفت أغصانها اليانعة، وتساقط أوراقها، في فضاء الجهل والتخلف... كنت خارج الوطن واتابع الأحداث، من خلال التلفاز، وبعض الصحف الاجنبيه، كانت الصورة قاتمة وغائمة' ولم افهم شئ!! ولماذا؟ يحدث ذلك في بلد انتهت فيها كل مضاهر التخلف والجهل !! حين عدت إلى عدن، كنت مشتاق لرؤيته وللقائه... فلم أجده! في استقبالي" وسألت عنه الاصدقاء والزملاء؟.. عرفت انه اعتقل، ودخل السجن، مع الكثير ممن دخلو السجن، تألمت جدا، لذلك، ايقنت ان الحياة، قد تواجهنا، بالكثير من المواقف والاحداث، التى تعترض، مسيرة حياتنا وطريق مستقبلنا، وربما يكون، هناك من الاخطاء، التي وقعنا بها، وفي احيان يكون مسار اختيارنا خطأ..او دائما ما تكون رغباتنا وغرائزنا هي من تحكمنا . واحيان يكون للقدر"مسار و طريق اخر، وهو المصير المجهول، والذي لا نملك تغيره، كنت اعرف صاحبي جيدا ، لم يكن سياسي في يوم ما، او عضو في حزب.. إذا لماذا يسجن او يعتقل ؟هل يكون القدر.... الذي خطى خطواته، ورسم طريقه.... و جعل صاحبي البدوي، هويته ومكان ميلاده... الريف!!!..