فاروق يوسف يكتب:

"Please water"

كانت السخرية الروسية ملغومة بطعم الفجيعة في اقتراح المقايضة لحل أزمة اللاجئين العراقيين المكومين على الحدود التي تفصل بين بيلاروسيا وبولندا. مقابل كل جندي بولندي ساهم في تدمير العراق أثناء الحملة الأميركية عام 2003 سيكون لزاما على بولندا أن تحتضن لاجئا عراقيا. ذلك ليس حلا سياسيا ولا علاقة له بالقانون، غير أنه نوع من المزج بين عبء التاريخ المأساوي وصرخة الإنسانية المكتومة.

ينظر الجنود البولنديين إلى اعدائهم العزل الواقفين وراء الإسلاك الشائكة من غير أن يروهم. البنادق هي التي ترى. البنادق هي التي يمكن أن تتكلم إذا ما اضطر الجانبان إلى الحوار. يفكر الطرفان في اتجاهين مختلفين. طرف يفكر في الموت وآخر يفكر في الحياة. بالنسبة للسيدة الحامل فإنها محت كل ماضيها من أجل لحظة تنفتح فيها الأبواب على مستقبل آمن لبناتها ولذلك الطفل الذي لا يزال يعوم في مياه البراءة الأبدية. تفكر تلك المرأة في الجنة فلا تلتفت لئلا ترى الجحيم. لا ترى الإسلاك الشائكة ولا الجنود ولا بنادقهم وتعتقد أنها غادرت الموت إلى غير رجعة. لقد تركت الموت وراءها.

قالت "انا اشجع كل عراقي على الالتحاق بنا بحثا عن حياة أفضل. حياة تليق بالآدميين". لم تبك لأن الموت يتربص بها. اعتبرت الوضع القاسي الذي تعيشه وقتا ضائعا ستجتازه مع بناتها والطفل الالهي لتصل إلى الحياة الحقة. لم أر إنسانا يثق بمصيره مثلما كانت تلك السيدة. السر يكمن في الألم العميق الذي يسكن الروح العراقية. لا أمل في العراق. لا يحتاج اولئك الهاربون المطرودون المكروهون المنبوذون المشردون الجائعون المنسيون إلى أن يخترعوا أعداء جددا. فهم يرغبون في أن يكون هناك مَن يحبهم. أن تكون تلك الأرض التي تقع وراء الإسلاك الشائكة أرض محبة. يكفيهم أن وطنهم كرههم بعد أن تأكدوا أنهم لم يكونوا مواطنين. تكفيهم غربتهم في بيوتهم التي صارت نوافذها تظل على ساحات القتل. كم قتل الالفا جندي بولندي من العراقيين؟ ذلك ما لا يُسأل عنه أحد. ولكن كم سيقتل الجنود البولنديين من ضيوفهم العراقيين على الجانب الآخر من الحدود؟

سيكون نوعا من السخرية السوداء إذا اعتبرنا أن هناك على الحدود البلاروسية البولندية مأساة إنسانية من غير العودة إلى جذور المشكلة التي تقع في العراق، هناك حيث يتوعد الاخوة الاعداء بعضهم البعض الآخر بمستقبل سياسي غير مريح في ظل تجاذبات حزبية، فئوية، طائفية ونفعية ليس للإنسان العراقي مكان فيها. للعراقيين حظ سيء حين وقعت بلادهم فريسة لأوهام الدولة الأعظم سلاحا واقتصادا واعلاما وهيمنة وكذبا وزيفا وقدرة على دفع العالم كله إلى الصمت من أجل السلامة. لا أحد وسط تلك الأزمة الدولية يلتفت إلى العراق. ترى لماذا يترك العراقيون بلدا ثريا ويعرضون أنفسهم لشتى صنوف الإذلال والهوان والجوع وصولا إلى الموت على أرض غريبة؟   

"Please water" كررتها الطفلة وهي تخاطب الجنود البولنديين. لم تكن هناك ردة فعل. لا لأن الجنود البولنديين لا يفهمون الانكليزية حسب بل لأنهم أيضا لا يسمعون. لقد تم احضارهم لا من أجل أن يسمعوا بل من أجل أن يقتلوا. كانت الصغيرة تعاني العطش وتشير إلى اختها الصغيرة التي تشاركها المعاناة. غير أن المشهد كان سينمائيا وبإخراج هوليودي لولا أنني على يقين من أن العزلة الإعلامية المفروضة على العراق لا تغري شركات الانتاج السينمائي التي برعت في سوريا أن تقوم بفبركة أفلام يتصفح البشر من خلالها فصول المأساة العراقية.

توحي حكومة بيلاروسيا كما لو أنها ستضطر إلى خوض حرب فتطلب من شقيقتها الكبيرة روسيا الاتحادية تزويدها بصواريخ نووية. الاتحاد الأوروبي من جهته لا يتخلى عن بولندا التي تعد جدارا يحمي المانيا من موجة لاجئين جديدة فيهدد بفرض عقوبات جديدة على حكومة مينسك. اما الدولة العراقية التي يشعل شعبها فصلا من حرب باردة جديدة بين روسيا والغرب فإنها صامتة وغير معنية بالمسألة. أولئك العالقون بين الحدود ليس أمامهم سوى العودة الطوعية. "إلى أين؟" إلى العراق الذي طردهم بعد أن أذلهم واضطهدهم ومارس شتى صنوف التعسف والاضطهاد في حقهم؟ أم إلى بلاد ضاقت بهم ففتحت لهم مخيمات للنازحين الذين اختفت بيوتهم بعد أن تمت مصادرة الأراضي التي تقع عليها تلك البيوت؟

الغريب في الأمر أن لا أحد يسأل العراق "ما الذي يدفع مواطنيه إلى المخاطرة بحياتهم من أجل الحصول على حق اللجوء في أوروبا؟" ذلك سؤال ممنوع ينعم في ظله أفراد الطبقة السياسية بكل أنواع الترف والرخاء والطمأنينة والأمان. أيها الإنسان العراقي حتى لو صلت إلى آخر العالم فإن صوتك لن يسمعه أحد. لو أن طفلة غير عراقية قالت "Please water" لأهتز العالم بأسره.