عبدالله السناوي يكتب:
محنة الديمقراطية فى العالم العربى
سؤال التحول الديمقراطى ومستقبله يطرح نفسه بتوقيت متزامن على تونس والسودان واصلا بإحباطاته إلى العالم العربى خشية انكسار ما تبقى من رهانات على بناء دول مدنية ديمقراطية حديثة.
لا «الاستثناء الديمقراطى التونسى» صمد لاختبارات الزمن بعد عشر سنوات من سقوط نظام «زين العابدين بن على»، ولا «الزخم السودانى» الذى أطاح حكم «عمر البشير» أسس لمرحلة انتقالية صلبة تفضى إلى تأسيس حكم ديمقراطى يستند على الإرادة الشعبية فى مواجهة تلال المشاكل التى تعترض وجود البلد نفسه.
فى الحالتين، التونسية والسودانية، صدرت «قرارات استثنائية» من رأس النظام بدوافع متناقضة تحت مسمى واحد هو إصلاح المسار واسترداد الثورة!
كانت دواعى «الإجراءات الاستثنائية» فى تونس، التى أصدرها الرئيس «قيس سعيد» فى (25) يوليو، بتجميد البرلمان ونزع الحصانة عن نوابه وحل الحكومة موضوع ترحيب شعبى لا يمكن إنكاره، فقد تآكلت الثقة العامة بالنخبة السياسية الحاكمة وتقوضت شعبية «حركة النهضة» التى تهيمن على البرلمان والحياة السياسية وينسب إليها قبل غيرها مسئولية تفشى الفساد فى بنية الدولة وتدهور مستويات المعيشة والخدمات العامة.
لم تكن القضية عند إعلان تلك «الإجراءات الاستثنائية» مدى اتساقها مع النص الدستورى، أو قدر التغول عليه.
كانت تعسفا فى تأويل الدستور، لكنها اكتسبت مشروعيتها من الابتهاج الشعبى بها.
منذ البداية تبدت منزلقات ما بعد الإجراءات الاستثنائية، وقد لخصها سؤال: ما الخطوة التالية؟.. بصيغة أخرى: كيف تسد الفجوة بين الشرعية الدستورية والمشروعية الشعبية؟
إذا لم يرد اعتبار الالتزام الدستورى فإنها العودة إلى حكم الرجل الواحد وخسارة ثقة الرأى العام مؤكدة.
مشكلة الرئيس التونسى «قيس سعيد» أن ما هو مؤقت تمدد فى الزمن، من شهر إلى شهرين إلى حين إشعار آخر، كأن الاستثناء هو الأصل.
لم يدر حوارا وطنيا مع القوى السياسية والنقابية التى أيدته، ولا اقترح أفكارا محددة لتعديل الدستور وقانون الانتخابات.
لم يطرح حتى الآن خريطة طريق تعهد أن يعلنها بأقرب وقت، ولا حسم فى الملفات المعلقة.
باستهلاك الوقت دون اتخاذ ما هو ضرورى من إجراءات تطمئن الرأى العام على سلامة الحركة إلى المستقبل لم يكن مستغربا التراجع النسبى فى مخزون شعبيته وارتفاع منسوب الاحتجاجات على سياساته وتعويم خصومه السياسيين بالوقت نفسه فى المشهد السياسى من جديد.
مستقبل «قيس سعيد» مازال فى حوزته، لكن الوقت يداهمه ومستقبل التحول الديمقراطى فى بلاده بين قوسين كبيرين.
العودة إلى الماضى مستحيلة والمراوحة فى المكان مهلكة.
تجاوز الأزمة التونسية ممكن بقدر إدراك الحقائق واحترام الخيار الديمقراطى.
ما يحدث الآن شروخ فى الشرعية قابلة للإصلاح والترميم.
فى المشهد السودانى ليست هناك مسحة شرعية لـ«الإجراءات الاستثنائية»، التى أعلنها قائد الجيش «عبدالفتاح البرهان»، بحل مؤسسات المرحلة الانتقالية بما فيها الحكومة والمجلس السيادى الذى يترأسه.
لا الوثيقة الدستورية التى تنظم المرحلة الانتقالية تتيح له حق إصدار مثل هذه القرارات، ولا الإرادة الشعبية العامة مستعدة أن تتفهمها.
كان فض الشراكة بين المكونين المدنى والعسكرى بالقوة صداما خشنا مع الرأى العام، الذى عبر عن رفضه بتظاهرات واحتجاجات ودعوات للعصيان المدنى مرشحة للاتساع فى بلد أنهكته أزماته وتجاربه مع الحكم العسكرى، على مدى عقود.
أزمة الشرعية تضرب فى فكرة الاستقرار نفسها، وتهز أية قدرة على مواجهة الأزمات الوجودية التى تعترض البلد.
فى محاولة أخيرة للملمة شظايا الشرعية المتناثرة أعلن «البرهان» التزامه بـ«الوثيقة الدستورية»، واستعداده للإفراج عن المعتقلين والمحتجزين السياسيين بمن فيهم رئيس الوزراء المقال «عبدالله حمدوك» والانفتاح على الحوار مع جميع المكونات السياسية.
يصعب التعويل على مثل تلك التعهدات، إذا لم تسندها إجراءات على الأرض.
المناورة لكسب الوقت وتخفيف ضغوطات الشارع والخارج مسألة أخرى.
السودان قضية عاجلة على الأجندات الدولية بقدر قربه من براكين النار المشتعلة فى إثيوبيا، التى قد تقوض الأمن والسلم الدوليين فى القرن الإفريقى.
المصالح الاستراتيجية والاقتصادية تزكى الضغوط المتواترة وتضع سقفا لما يمكن أن يصدر عن قائد الجيش السودانى.
الضغوط الدولية مرشحة للاتساع والعقوبات الاقتصادية ماثلة فى ثنايا الخطاب الدبلوماسى فيما لا تذهب التحفظات الغربية بالأزمة التونسية إلى نفس درجة الحدة ولا تزيد عن إشارات دبلوماسية متواترة لضرورة العودة بأسرع ما يمكن إلى المسار الدستورى.
هاجس «الإخوان المسلمين» يطل على الأزمتين المتفاقمتين ويلقى بظلاله الكثيفة على دول الإقليم.
احتمال عودة ما لأنصار النظام السابق فى بنية السلطة السودانية الجديدة غير مستبعد بالنظر إلى أنها تحتاج إلى سند شعبى، لكنه خيار ملغم إقليميا.
واحتمال استعادة «حركة النهضة» لأوزانها السياسية غير مستبعد هو الآخر، بالاستثمار فى الأخطاء الفادحة التى يقع فيها الرئيس التونسى، وهو يؤشر على سيناريوهات صدام فى أوضاع قلقة داخليا وإقليميا.
لكل خيار حلفائه وأثمانه وتكاليفه.
بنظرة على موقع الأزمتين على خرائط السياسة العربية فإنهما تدخلان فى صلب ما قد يحدث غدا.
بقوة التاريخ الماثل أسست التجربة التونسية للموجة الأولى فيما يسمى بـ«الربيع العربى».
بدت أكثر نجاحا من أية تجارب أخرى رافقتها، بنت تجربة ديمقراطية استقرت لعقد كامل قبل أن تتقوض، تجنبت الصدامات الصفرية التى جرت فى مصر على خلفية طلب «الإخوان المسلمين» «التكويش» على السلطة وتغيير طبيعة الدولة وترويع القوى المدنية التى ناهضتها، وبعدت عما حاق بسوريا من حرب إقليمية بالوكالة، وما جرى فى اليمن من حروب مماثلة، وما حدث لليبيا من غزوات واحتلالات وانهيارات وتمركزات لجماعات عنف وإرهاب.
أسبغ على التجربة وصف «الاستثناء التونسى»، لكنها لم تحافظ على قوة الدفع والبلد كله الآن عند مفترق طريق.
وقد اجترحت التجربة السودانية أملا فى مستقبل جديد للعالم العربى، وليس شعبها فقط، بقدر عمق التظاهرات والاحتجاجات التى كللت بالنجاح فى إطاحة حكم «البشير» وبدء مرحلة انتقالية بالشراكة بين المدنيين والعسكريين، لكنها وصلت فى منتصف الطريق إلى انسداد ينذر بتقويضها تماما.
تنتسب تلك التجربة إلى تظاهرات واحتجاجات متزامنة فى العالم العربى يمكن أن نطلق عليها الموجة الثانية من «الربيع العربى»، التى تبنت أهداف الأولى فى طلب بناء دول مدنية ديمقراطية حديثة.
شملت الموجة الثانية السودان والجزائر ولبنان والعراق، لم يكتب لها باستثناء الثورة السودانية أن تمضى أشواطا بعيدة فى طلب التغيير، قبل أن تتعرض لأزمتها الماثلة.
أسوأ استنتاج ممكن الادعاء بأننا غير مؤهلين فى العالم العربى للديمقراطية، وغير قادرين على التخلص من إرث الطائفية، وغير صالحين للالتحاق بالعصر وقيمه فى كفالة الحريات العامة وقواعد دولة العدالة والقانون وحقوق المواطنة والكرامة الإنسانية.
من زاوية موضوعية فإن إفلات تونس والسودان من أزمتيهما المتفاقمتين يعطى أملا ملهما بـ«تجربة نجاح» تحتاجها قضية الديمقراطية فى العالم العربى.