الحبيب الأسود يكتب:
عادت ستيفاني.. فهل تعيد تحديد الأولويات في ليبيا
الدبلوماسية الأميركية ستيفاني ويليامز تعود إلى طرابلس كمستشارة للأمين العام للأمم المتحدة متخصصة في الملف الليبي، وبذلك تستأنف مهمتها التي تولتها منذ استقالة المبعوث الأممي غسان سلامة في الثاني من مارس 2020 وحتى الانتهاء من ملتقى الحوار المنعقد بجنيف في أوائل فبراير 2021 وانبثقت عنه السلطات الانتقالية التي تم تكليفها بالإعداد للانتخابات المقررة للرابع والعشرين من ديسمبر الجاري.
عُرفت ويليامز كامرأة حديدية ذات موهبة طاغية في المناورة، واستطاعت القيام بدور مهم في اتجاه وقف إطلاق النار وإبرام الاتفاق العسكري بين طرفي النزاع في الثالث والعشرين من أكتوبر 2020، والإعداد لملتقى الحوار بتونس في نوفمبر من العام ذاته، وكانت وراء إقرار الرابع والعشرين من ديسمبر 2021 كموعد للانتخابات نظرا لما يحمله من رمزية خاصة كونه يصادف الذكرى السبعين لقيام الدولة الليبية المتحدة بدعم مباشر من الأمم المتحدة.
لكن في المقابل، كانت ويليامز طبيبة مختصة في وصف المهدئات أكثر من أن تدل على الحل الجذري للأزمة، فمجرد النظر إلى قائمة المشاركين في ملتقى الحوار التي كانت وراء اختيارها، وإلى انتشار ظاهرة الفساد وشراء الذمم والأصوات في مؤتمري تونس وجنيف، يؤكد أنها كانت منحازة إلى طرف دون غيره، وأنها أعطت للبعض مساحة تتجاوز بكثير حجمهم الحقيقي على الأرض. أقصد تيار الإسلام السياسي الذي كانت للعناصر المنتمية إليه والمحسوبة عليه أغلبية مطلقة في الملتقى، رغم أنه محدود الحضور والتأثير في الشارع والمجتمع، وهو ما ساهم في عرقلة التوصل إلى قاعدة دستورية لتنظيم الانتخابات، إذ أن الإخوان وحلفاءهم كما بدا واضحا لا يريدون انتخابات لا تكون على مقاس تطلعاتهم إلى السيطرة على البلاد.
كانت ويليامز تدرك جيدا أن النخب السياسية متورطة في نهب المال وتبديد ثروة الليبيين، ومع ذلك لم تتصدّ لمن جعل من الفساد صهوة لخوض السباق والفوز به، وحتى التحقيق الذي أجراه فريق من الخبراء الدوليين، لم يتم الإعلان عنه رسميا، ولا كشف الحقائق التي تم التوصّل إليها.
العارفون بتفاصيل الأحداث يؤكدون أن مبالغ ضخمة تم صرفها لشراء عدد كبير من أصوات قائمة ستيفاني، وأن هناك من جنوا ثروات طائلة من سوق المزايدات الذي فتحه السماسرة تحت راية الأمم المتحدة.
منذ العام 2018 تحولت الدبلوماسية الأميركية من تمثيل بلادها إلى تولي منصب نائب للمبعوث الأممي غسان سلامة، ويبدو أنها عرفت كيف تمسك بجزء مهم من خيوط اللعبة، وعندما استقال سلامة في أوائل مارس 2020، واصلت مهمتها من دونه، فكانت لها الكلمة الطولى، ولاسيما أن واشنطن كانت تريد العودة إلى سطح الأحداث في ليبيا لمواجهة الدور الروسي المتنامي، وللتغطية على فشل الاتحاد الأوروبي وعلى الصراع بين بعض أعضائه حول مراكز النفوذ في شمال أفريقيا والصحراء الكبرى.
كانت حرب طرابلس تمثّل تحديا كبيرا أمام المجتمع الدولي، وزاد التدخل التركي المباشر وجلب الآلاف من المرتزقة من تعقيد الأوضاع، وأدى وقف إنتاج وتصدير النفط إلى المزيد من تأزيم الأوضاع المالية والاقتصادية، وكان واضحا أن الجغرافيا الليبية انقلبت إلى ملعب للمصالح والحسابات والتجاذبات الإقليمية والدولية، وقد تفهمت ويليامز كل ذلك، وقررت أن تضع خارطة للطريق من أجل حل سياسي من بين أهم بنوده تشكيل اللجنة العسكرية المشتركة، واختيار سلطة تنفيذية جديدة، وتحديد موعد للانتخابات الرئاسية والتشريعية، كما كان من أبرز ما كرسته، الاعتراف لأول مرة بدور سياسي لأنصار النظام السابق، ورفض إقصاء أي طرف من أطراف النزاع إلا من خلال صندوق الاقتراع.
في التاسع من فبراير 2021 باشر الدبلوماسي السلوفاكي يان كوبيتش مهمته كرئيس لبعثة الدعم ومبعوث خاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، وبحسب أغلب المؤشرات، فإن الرجل واجه تحديات حقيقية، وتعرض إلى ضغوط عدة من الدخل والخارج، ورغم أن الجميع تقريبا كان يزعم العمل من أجل إيجاد الحل المناسب للأزمة، إلا أن الحقيقة غير ذلك، فأغلب الأطراف كانت في تنافس حاد من أجل ضمان مصالحها في بلد ذي أهمية استثنائية من الناحية الاستراتيجية ويحتكم على رصيد كبير من الثروات المكتشفة وغير المكتشفة.
شارك كوبيتش في اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة في جنيف والقاهرة وسرت وغيرها، وكان له دور في نجاح أعمالها، وفي تنفيذ بعض بنود اتفاقها، كما كان له حضور مهم في اجتماعات الحوار السياسي وفي مؤتمري برلين 2 وباريس وغيرها، وفي تبليغ رسائل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى جميع الفرقاء، بما في ذلك رسائل الضغط من أجل تنظيم الانتخابات في موعدها، إلى أن راج خبر استقالته من منصبه دون تفسير لحقيقة الموقف. هل اختار أن يستقيل فعلا؟ أم تم إجباره على الاستقالة؟ وإذا كان قد أجبر على الاستقالة فمن قبل من؟
عندما تم تحديد العاشر من ديسمبر كموعد لمغادرة كوبيتش منصبه رسميا، كان لا بد من إيجاد البديل الذي سيستأنف المهمة ويركب قطار الانتخابات قبل 13 يوما من محطة الاستحقاق الرئاسي، ولذلك اقترحت الأمم المتحدة الدبلوماسي البريطاني نيكولاس كاي مبعوثا جديدا، لكن روسيا رفضت الموافقة على ذلك من موقعها بمجلس الأمن، ويبدو أن الموقف الروسي قابل هوى لدى الجانب الأميركي الذي يحاول أن يفرض أجندته الخاصة في ليبيا بعيدا عن بقية الحلفاء، والذي يعلم أن أي اتفاق على مبعوث أممي جديد لن يتحقق بسهولة نتيجة التجاذبات بين القوى الدولية الكبرى، فتم الإيحاء للأمين العام أنطونيو غوتيريش باعتماد حل آخر، وهو تكليف مستشارة خاصة له بتمثيله مباشرة في طرابلس من دون حاجة إلى انتظار موافقة من مجلس الأمن، فكان الاختيار على ستيفاني التي لم تنقطع في يوم من الأيام عن ملاحقة مستجدات الملف الليبي، وكأنها كانت تنتظر العودة إلى الإشراف عليه في أي لحظة ممكنة.
الآن، وظاهريا على الأقل، هناك سيطرة أميركية شبه مطلقة على الوضع في ليبيا، السفير ريتشارد رولاند الذي يدير دفة المفاوضات اليومية مع أطراف النزاع، وستيفاني العائدة من بوابة الأمم المتحدة، والأفريكوم (القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا) التي تراقب الوضع الميداني عن كثب، لكن ذلك لا يعني أن الليبيين قد ضمنوا تجاوز الأزمة، فتجارب واشنطن السابقة تثبت فشلها حيثما حلّت، الحالتان الأفغانية والعراقية تشيران إلى ذلك بوضوح.
اليوم هناك تحدّ كبير أمام ويليامز وهو تنظيم الانتخابات في موعدها الذي كانت حددته بنفسها، لكن من الصعب القول إنها قد تستطيع رفع هذا التحدي، فإرادة التأجيل هي الطاغية، وقد يكون من الأفضل تغليبها حتى لا يكون الاستحقاق الرئاسي منطلقا لحرب جديدة. بعض من جيء بهم للحكم لا يريدون التخلي عن كراسيهم مهما كان الثمن، ليسوا فقط من كانت ويليامز تنعتهم بالديناصورات وبالفاسدين، بل هناك من هم الفساد ذاته يمشي على أقدامه. هناك ميليشيات وجماعات مسلحة لن تتخلى عن امتيازاتها، كان من الأولى حلها وجمع أسلحتها قبل الاتجاه إلى الانتخابات. هناك قوات أجنبية ومرتزقة ليس من اليسير إقناع الواقفين وراءها والمسؤولين عنها بترحيلها قبل الاتفاق على تقسيم الغنائم، وهناك قوى تمتلك السلطة والسلاح والثروة من دون قاعدة شعبية تذكر، ومع ذلك تعتقد أنها الأولى بحكم ليبيا إلى أجل غير مسمى. هناك كذلك مخاوف مشروعة من انتخاب رئيس للبلاد دون وضع دستور يحدد له مسارات دوره وحدود سلطته، وهناك مخاوف أكبر من أن يتم انتخاب رئيس لا يستطيع الوصول إلى ديوان الرئاسة لأن المحيطين بها من أعدائه الألداء.
عادت ويليامز إلى طرابلس، وسيكون عليها إعادة النظر في مجريات الأحداث وتحديد الأولويات من جديد، ربما من الأفضل توجيه كل جهودها إلى تفكيك الميليشيات وجمع السلاح وطرد القوات الأجنبية المرتزقة، فالمسلحون المحليون والأجانب سيحافظون على امتيازاتهم ومواقعهم لو فاز عبدالحميد الدبيبة بالرئاسة، وسيتجهون نحو الحرب من جديد لو فاز حفتر، وسيرفضون الاعتراف بالنتائج لو فاز سيف الإسلام، وفي كل الحالات فإن الأزمة لن تحل بالرئاسيات. أحسب أن ويليامز تدرك ذلك.