كرم نعمة يكتب:

كأس تاريخية مسمومة على طاولة نفق المانش

يمكن استعادة حزمة طويلة من الكلام غير الدبلوماسي عندما يتعلق الحال بالعلاقة بين الأمتين الفرنسية والبريطانية. صحيح أن البلدين أكثر من جارين وفق مفاهيم الجغرافيا التي لا تتغير، وصحيح جدا أنهما شعرا بالمسؤولية الاقتصادية العالية في قرار الربط في القنال الإنجليزي منذ عقود، لكن مع كل تعطل مرور بنفق المانش بين المسؤولين في البلدين، يتم استحضار ضغينة الخلاف الثقافي الفرنسي – البريطاني. هناك صداقة وتضامن، لكن لا يمكن أن تغيب أفكار الحرب والتنافس أيضا.

قبل أيام ألغت السلطات الفرنسية دعوة وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتل إثر الخلاف على اللاجئين غير الشرعيين بين البلدين. كل بلد كان يحمل الآخر مسؤولية مأساة غرق العشرات من اللاجئين.

وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان اعتبر أن بوريس جونسون لجأ إلى السخرية من فرنسا من خلال حث باريس على استقبال مهاجريها، مشيرا إلى أن العلاقات البريطانية – الفرنسية ليست طبيعية حاليا.

في حقيقة الأمر، لم تكن كذلك دائما، وإن بدت هادئة في أوقات ما، فهل من بيننا من يمكن أن ينسى التصريح الشهير للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك “ماذا حصلنا من بريطانيا، غير الطعام اللاصحي”. ستجد المعادلة أكثر حنقا في الجانب البريطاني مقابل ذريعة شيراك عن الطعام البريطاني غير الصحي. الحرب تصل غالبا إلى اللغتين، فكل طرف يضع أسلحته في أكف موليير وشكسبير ليجعلاهما يتصارعان. هناك كأس مسمومة على طاولة القنال البريطاني – الفرنسي الجميع يعرف بوجودها، ويحرض على أخذ رشفة منها كلما فتح التاريخ عينه على العلاقة بين البلدين. حتى عندما تشاجر صيادو الأسماك الفرنسيين والبريطانيين انبرت الأصوات المتشنجة تستحضر الحرب الثقافية.

نعم هناك احتفاء متبادل، نتذكر جميعا الترحيب الفائق عن العادة في استقبال بريطانيا للرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وزوجته كارلا بروني، لكنه كان أشبه بترحيب إعلامي بنجم تلفزيوني وعارضة أزياء جميلة!

وعندما استقبل عمدة لندن صادق خان نظيرته الباريسية آن هيدالغو في مقهى محطة قطارات كنغ كروس، كانا يبعثان برسالة اجتماعية عن توأمة العاصمتين، غير أنه لا بوريس جونسون ولا إيمانويل ماكرون يثقان بالرسالة السياسية المتوخاة من ذلك اللقاء الشعبي. قبل ذلك كان توني بلير يخفف من حدة الغيظ الفرنسي عندما أبدى فضل فرنسا عليه بالقول “لقد عملت في شبابي نادلا في أحد بارات باريس”.

مهما يكن من أمر، ليس الجدل الذي تصاعد على تحمل مسؤولية غرق اللاجئين في بحر المانش وحده ما يجعل عمق العلاقة الفرنسية – البريطانية متوترا، لأنها في أهدأ حالاتها كانت كذلك. الأنفة البريطانية لا تقبل بفرنسا منافسا وتريد الثأر منها حتى في كرة القدم. والفرنسيون يشعرون أن الغطرسة البريطانية بوصفها أم التاريخ لا تمتلك شرعيتها أمام طموحات نابليون بونابرت.

ذلك يجعل التاريخ حاضرا بشكل دائم كلما اختلف صيادو الأسماك على حدود الصيد في بحر المانش، وكلما تمت الاستعارة من موليير مقابل ما كتبه شكسبير، وكلما اختلفت الأرقام عن عدد الناطقين بالفرنسية مقابل الإنجليزية، ولا ينتهي الأمر بلقاء جونسون مع ماكرون، “الثاني سبق وإن وصف الأول بالمهرج”، فدبلوماسية الابتسامات الأوروبية لم تكن تصلح في الاطمئنان لها في علاقة باريس بلندن من قبل، فكيف يمكن النظر إليها بعد بريكست!

كانت مأساة غرق اللاجئين في الأيام الماضية محرضا لفهم المزيد في العلاقة بين لندن وباريس، لأنها في أهدأ حالاتها كانت متوترة في داخلها.

عندما سألت صديقي البريطاني العارف بالتاريخ بين البلدين، عزا الأمر إلى الأنفة البريطانية في علاقتها مع فرنسا. لكن على ماذا الأنفة إذا كان التاريخ يقول إن المصلحة يجب أن تكون في سفح كأس النبيذ المسموم بين البلدين وليس التحريض على ارتشافه. البلدان بمثابة توأمين، عضوان دائمان في مجلس الأمن، دولتان نوويتان لديهما اقتصاد متشابه وعدد سكان متقارب، البريطانيون يعشقون باريس والفرنسيون لا يخفون سعادتهم بلندن، وقطار يورو ستار يوصل بين العاصمتين خلال ساعتين لا أكثر، فيمكن لأي بريطاني أن يقضي أمسيته مع كأس نبيذ فرنسي والعودة في نفس المساء، مثلما يمكن للفرنسي التمتع بهذه الفرصة أيضا في لندن.

والقواعد المالية بين البلدين بعد بريكست بحاجة إلى أكثر من تعديل من دون استحضار الضغينة التاريخية، فلا يمكن لبريطانيا مغادرة أوروبيتها وتكون أميركية مثلا، مثلما لا يمكن لفرنسا بوصفها أحد أكبر قادة الاتحاد الأوروبي إغلاق عينها عن الجغرافيا التي تربطها بالجارة الخارجة عن الإجماع الأوروبي.

لكن سيلفي بيرمان السفيرة الفرنسية السابقة في بريطانيا لا ترى أي جدوى من العمل مع جونسون سيد بريكست المغرور، لقد نشر جونسون رسالته التي تتهم فرنسا بعدم العمل الجاد من أجل السيطرة على تدفق المهاجرين على تويتر، بيد أن الأمر أثار حنق ماكرون معتبرا تصرف بوريس غير جاد فالقادة لا يتواصلون في أمثال هذه القضايا بالتغريد على تويتر أو برسائل يتم نشرها للعامة. وقال “نحن لسنا مبلّغين عن خروقات في العمل”.

وقبلها ارتفعت حدة الكلام على لسان كليمنت بيون وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي عندما تساءل لماذا يريد المهاجرون الذهاب إلى المملكة المتحدة؟

وجاءت هذه المرة الإجابة لتقدم نموذجا اقتصاديا بريطانيا يصل إلى مستوى “العبودية العصرية” وفق تعبير الوزير الفرنسي، عازيا ذلك إلى اللغة الإنجليزية، ولأن المهاجرين يحاولون الانضمام إلى عائلاتهم، ولأن هناك نموذجا اقتصاديا يعد أحيانا شبه عبودية عصرية.

آخر الرسائل الغاضبة جاءت من رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس في رسالة إلى جونسون، رافضا قبول وجود ضباط أو جنود من الشرطة البريطانية في دوريات مشتركة على الشواطئ، لأن ذلك من شأنه أن يضر بسيادة فرنسا.

هناك سأم متبادل بين البلدين واتهامات بتبادل الكلام المزدوج، هو في حقيقته لا يعود فقط إلى كارثة غرق 27 مهاجرا غير شرعي قرب مدينة كاليه الفرنسية على الحدود البريطانية. إنه انتقاد متبادل لا يتوارى في أوقات إلا لكي يعود أكثر احتداما.