فاروق يوسف يكتب:

ليس الحل في قصر بعبدا

بعد انفجار مرفئ بيروت التقى الرئيس الفرنسي ماكرون بأفراد من الطبقة السياسية اللبنانية وأسمعهم كلاما خشنا، لا يمكن أن تقبل دولة ذات سيادة أن يوجه إلى رعاياها فكيف إذا كان ذلك الكلام المهين موجها إلى سادة البلد القابضين على مصيره؟

لم نسمع يومها احتجاجا من أي واحد ممن التقاهم ماكرون. وفي المقابل فإن أحدا لم يأخذ كلام ماكرون على محمل الجد. كان من الثابت أن شيئا مما قرره الرئيس الفرنسي لن يجد طريقه إلى النور وبالأخص في ما يتعلق بمسؤولية الساسة الذين وصفهم صراحة بالفاسدين عن الخراب الذي شهدته العاصمة اللبنانية والذي هو استمرار للخراب الذي عصف بحياة اللبنانيين على الأصعدة كافة وفي مقدمتها يقف الوضع المعيشي الذي شهد تدهورا جسده انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي بعد أن كان ذلك السعر ثابتا لسنوات طويلة.

بلع ماكرون تهديداته وحاول أن يتسول المال من دول ومؤسسات عالمية مانحة من أجل أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، لكن الوضع السياسي المغلق في لبنان لا يسمح بتمرير محاولة من ذلك النوع، عادة ما تكون مشروطة وتجري تحت رقابة دقيقة. لقد اعتاد ساسة لبنان أن يتلقوا هبات نقدية يتقاسمونها فيما بينهم وفي نطاق ضيق وسري بحيث لا يعرف أحد عن تلك الهبات شيئا. لقد طور أولئك الساسة فسادهم من خلال ما كانوا يتلقونه من اكراميات عن طريق استثمارها في الحصول على حصانة أقوى وأشد مناعة من الحصانة الدبلوماسية وهو ما وضعهم في مواقع أعلى من أن تطالها يد القضاء.

السياسي في لبنان لا يشبه في حصانته أي سياسي في كل دول العالم باستثناء العراق الذي هو حالة شاذة لا تصلح للمقارنة لأنها مزيج من ممارسات غير وطنية صنعها الاحتلال الأميركي ورعتها إيران وتبناها أتباعها مؤطرة بفساد غير مسبوق في التاريخ. وللأمر في لبنان تأريخه وليس هو وليد اللحظة التي هيمن فيها حزب الله على الدولة. لقد حُكم لبنان في ظل نظام المحاصصة الطائفية من قبل عوائل لم ينسحب أفرادها من الحكم إلا عن طريق الموت الطبيعي أو القهري. غير أن ما أحدثه حزب الله بسبب استقوائه بالسلاح غير الشرعي من تحول كارثي في الحياة السياسية وهب ساسة لبنان حماية من أية مساءلة قانونية، بدليل أن أيا من سياسيي لبنان لم يواجه اتهامات بالهدر المالي أو سوء التصرف بأموال الدولة.

اليوم تعيش الحياة السياسية في لبنان نوعا من العطلة الاجبارية، بالرغم من أن البلد في أمس الحاجة إلى حراك سياسي في مواجهة الكارثة الاقتصادية التي يعيش الشعب تفاصيلها من خلال تردي أوضاعه المعيشية. وإذا ما كان السياسيون ينقلون الكرة من ملعب إلى آخر ويوجهون اتهامات ضمنية، بعضهم إلى البعض الآخر فإن تشكيل حكومة جديدة لن يخرج مسألة الحكم من الواقع المظلم الذي صار حزب الله ومن خلفه نبيه بري رئيس مجلس النواب يضعه على الطاولة باعتباره الخيار الذي لا يمكن تغييره. وقد يكون الاختراق الذي أحدثه تيار الرئيس ميشال عون من خلال تبنيه طروحات القاضي طارق بيطار نوعا من الرغبة في اضفاء عنصر التشويق على الحياة السياسية التي صارت في حاجة إلى مفاجآت تخرجها من حالة الرتابة التي سببتها هيمنة طرف واحد على كل شيء.

دخل قصر بعبدا على الخط كما لو أن الرئاسة اللبنانية تمارس حقها الدستوري وذلك ليس صحيحا. الصحيح أن هناك صراع مصالح خفي ما بين صهر الرئيس وهو باسيل جبران وبين الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل. لم يكن لبنان هو مادة ذلك الصراع بل هو عنوانه المؤقت. فالرئيس عون يحاول أن يبتز حزب الله بالرغم من أنه صنيعته. يدرك عون أن ليس هناك بديل مسيحي جاهز لدى حزب الله لكي يحل محله في قصر بعبدا. لذلك فإنه يعمل جاهدا على يفرض توريث باسيل. وهو ما سخر منه بري حين قال إنه سيمشي على قدميه إلى قصر بعبدا إذا كان الحل هناك.  

يعرف بري أن بعبدا فقد منذ تعيين ميشال عون بضغط من حزب الله القدرة على تمثيل المسيحيين كلهم. التيار العوني هو من يقيم هناك. جبران باسيل هو خلاصة ذلك التيار. ليذهب لبنان إلى جحيمه من أجل أن يبقى باسيل في مملكته. ذلك يعني أن ساسة لبنان يعرف بعضهم البعض الآخر وهم يتبادلون الجمل التي لن يفهمها أحد غيرهم. إنها الجمل التي يقولها المهربون في السوق والتي يناقض معناها الحقيقي ما يُفهم منها واقعيا.