ملحم سلمان يكتب:

الانقسام الداخلي يقلص دور لبنان في تقرير مصيره

اي مراقب للهجة التخاطب السياسي بين اهل النظام اللبناني، وحتى بين من يطرحون انفسهم كبديل له، يستخلص ان حرق الوطن هرباً من المحاسبات اصبح من أهم اهداف الطبقة الحاكمة، كما يلاحظ مدى نجاح النظام الطائفي في تعطيل الفكر المدني المواطني لدى اغلب اللبنانيين، كما نجح في شرذمتهم مذهبياً وطائفياً مما اجهض دور المجتمع المدني في المشاركة الفاعلة بعملية التغيير الضرورية المنشودة.

المجتمع المدني اللبناني غرق في رمال الإنقسامات الطائفية والمذهبية وفي وحل الفساد وفي مستنقع الارتباط بمصالح اقليمية تتعارض مع مصلحة الوطن اللبناني. ولقد أصبح البحث عن الحقيقة من الأمور المستحيلة، أكان ذلك في نهب المصارف المبرمج لأموال الناس او في التحقيق بأسباب تهديم مرفأ بيروت. فأهل النظام كلهم، وبدون استثناء، متورطون في اغتصاب البلد وموارده وفي القضاء على استقلالية مؤسساته.

ولقد نجح النظام الطائفي والمذهبي في تقليص الوطن الى كونفدراليات على حساب الدولة المركزية القوية في امكاناتها...المضحك المبكي ان أهل النظام، من الموالين ومن المعارضين، متفقون على موضوع واحد وهو تكريس اللامركزية، اي تثبيت انحلال الدولة المركزية وما تبقى منها، رغم ان كل الوصفات ومواصفات الحلول للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تتطلب سلطة مركزية قوية.

اذن، المصيبة ليست فقط في رفض فكرة الحوار الوطني الآن، وإنما في نوعية "الحلول" التي تتقاذفها الاطراف المختلفة وفي مقدمتها "حل اللامركزية" والحديث عن تعزيز القوات المسلحة التي تعاني الكثير من تدهور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

العهر السياسي في لبنان تخطى كل الحدود. الكل كان يتمنى ان يرى في مشاريع الموازنات منذ ١٩٩٢ مخصصات لتعزيز الجيش، وغياب هذه المخصصات يؤكد عدم جدية المطالبين بتعزيز سلطة الجيش اللبناني على سائر الأراضي اللبنانية.

المنهجية المتبعة لاسقاط الدولة وتعزيز الفساد وتعطيل اغلب اجهزة المراقبة، ظهرت واضحة لدى "صندوق النقد الدولي"، إلاّ أنّ تشبث الولايات المتحدة في حماية وقحة لمهندسي السرقات وممارسي الفساد يلقي الضوء على الموضوع الاهم الذي يتجاهله عدد من مطالبي التغيير الجذري للنظام هو ان الولايات المتحدة ومن يخدمونها يتشاركون في مسؤولية انحلال الدولة اللبنانية ومؤسساتها من خلال حصار اقتصادي يدفع ثمنه الشعب اللبناني ويعطي المجال للمقاومة، مشكورة، لسد ما أمكن من احتياجات الناس وملئ فراغ بعض المؤسسات الحكومية.

  في خضم هذه الاوضاع المأساوية يرفض بعض اهل النظام في الحكم وفي المعارضة المشاركة في حوار وطني كبديل لفشل الحكومة ومجلس النواب في الاتفاق علي برنامج عملي لانقاذ البلد.

واعتبرو يا ذوي الالباب، فرئيس الحكومة اللبنانية يهدد بالاستقالة ان تمت ملاحقة حاكم البنك المركزي، وهو نفسه الذي رفض اي تسوية لمشكلة التحقيق القضائي بجريمة المرفأ!.

أيضاً، فإنّ أكثر المطالبين باستعادة "السيادة والاستقلال" ممول من السعودية التي اعتبرت جزأً هاما من المكون اللبناني"ارهابياً" وتقطع علاقاتها مع لبنان لأنها تعتبر أن اي نقد لتدميرها اليمن هو غير مقبول!.

للأسف أيضاً، فإنّ بعض من يحملون لواء محاربة النظام الفاسد يتعاونون علناً مع سفيرة الولايات المتحدة "جان دارك" انهاء المقاومة وحماية أمن ومصالح اسرائيل!.

 شعار جديد ادخله الآن من تعاون مع الاحتلال الإسرائيلي للبنان: "الاحتلال الايراني" !!.

نعم لإيران نفوذ في لبنان لكنه لا يوازي النفوذ الامريكي او السعودي او الفرنسي... فهل نحن نعيش مخاض انحلال لبنان؟ ام ان بعض الافرقاء انضموا الى مخطط تقسيمي دولي/إسرائيلي؟!.

ان المخاض المؤلم الذي يسيطر على منطقتنا ومعالم المستقبل التي بدات تظهر تشير الى بوادر تعديلات هامة في العلاقات بين الدول المتخاصمة والى تعديلات مقبلة في حدود وهويات بعض الاوطان، كما تشير الى تكريس التطبيع والتشابك السياسي والاقتصادي مع العدو الإسرائيلي، والى تعزيز التعاون المعلن وغير المعلن في مجالات الغاز والنفط والمياه، وحتى في المجالات الأمنية والعسكرية، مع اسرائيل!.

فإيران رغم علاقاتها المتوترة مع السعودية تتفاوض معها..

وسوريا  التي دفعت ثمن دعمها لمقاومة الاحتلال الامريكي للعراق ولرفضها سلام غير عادل مبتور مع إسرائيل، تقيم علاقات قوية مع مصر ومؤخراً مع دولة الامارات ومع  الاردن، وهي  دول  ناشطة في التشابك الاقتصادي مع إسرائيل!.

والجزائر تعزز علاقاتها مع مصر المتعاهدة مع إسرائيل، والمغرب يُطبّع مهرولا ويدخل إسرائيل طرفاً في التوتر المغربي/الجزائري!.

وفي اسرائيل تجمع "اسلمجي" فلسطيني ينقذ الحكم فيها والحكومة الإسرائيلية الحالية!.

ومنظمة التحرير تنسق مع المحتل لاطفاء المقاومة الشعبية ضد الاحتلال!، وهنا لا بد ان ننحني امام مقاومة الاسرى الفلسطينيين الذين يؤكدون رفض اجهاض الحقوق الشرعية للفلسطينيين خارج اطار حل عادل وشامل، وبأن ذلك لن يمر مهما تنوعت الاقنعة التطبيعية.

في هذا الخلط الجاري للحابل بالنابل الذي يحتم التكاتف في لبنان واستخلاص العبر، نشهد تحجراً في المواقف وتشجيعاً خارجياً لتعميق الهوة بين الاطراف اللبنانية.

 في لبنان يتعزز التحجر التكفيري للآخر، ويتم ّرفض الحوار الوطني الذي يقدم المسلك الوحيد الممكن الآن لاعادة بناء الوطن في اطار يشارك فيه الجميع ولا تطغى عليه مخاوف تسلط اكثرية ديمغرافية او ميليشيات مذهبية.

السوأل الأهم هو هل التحريض الخليجي/الامريكي على المقاومة ورفض الحوار معها ومع حلفائها هو مقدمة لتفكيك الكيان ولتوطين الاخوة الفلسطينيين والاخوة السوريين الذين لجأوا إلى لبنان؟!.

أليس من حق الناس ان تعلم؟!.

هل تورط بعض الافرقة في وطننا بمشروع تفتيت العالم العربي، بما فيه لبنان، على اسس طـائفية ومذهبية وقبلية؟!.

ان انهيار الوطن يُسرّع به الآن الشلل الفكري الذي ظهر واضحاً في غياب اي جامع مشترك بين رافضي الفساد من اجل الوصول إلى نظام مدني بديل، وسبب ذلك، كما اكرر في كتاباتي، هو النظام التربوي الذي افرز رؤى مختلفة ومتعددة للهوية الوطنية وزرع التفرقة بين أجيال مختلفة من اللبنانيين.  

وُيعجّل أيضاً في الانهيار اللبناني الحاصل، تنازل النظام عن مسوولياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية تجاه المواطن ولمصلحة التحالف اللااخلاقي الذي جمع بين السياسيين ورجال المصارف وبعض رجال الدين.

 الجدير بالذكر، أنّ الذي يعرقل الاصلاحات الانقاذية هو نفسه الذي يمنع التواصل والحوار ويؤجج التقوقع المذهبي، وأنّ الولايات المتحدة والسعودية في حربهما على المقاومة وفي حمايتهما لمن يساعدهما في الحكومة الحالية، بالاضافة الى حاكم البنك المركزي.. والمصارف، يتمّ منع المحاسبة والشفافية وتستمر عوامل انهيار البلد.

ولا يمكن الحديث عن واقع مدى استقلالية لبنان دون الاعتراف بفقدان استقلالية القرار لدى بعض الافرقاء وبروز الفكر الانفصالي التقوقعي متاثراً بالموجات التكفيرية التي زرعتها الولايات المتحدة واصرار التحالف السعودي/الاسرائيلي/الامريكي على تعزيزه من خلال تأجيج الاحقاد وشراء الضمائر وتجويع الناس وشيطنة المقاومة.

إنّ المقاومة تعاملت مع كل هذه الضغوط بأسلوب وطني ذكي، لكن آن الاوان لتفصل المقاومة نفسها عن اهل الفساد من حلفائها، وبأن تشارك في قيام جبهة وطنية مدنية جامعة من أجل إقامة نظام مدني ديمقراطي منفتح على محيطه العربي واقامة عدالة اقتصادية واجتماعية منتجة مع احياء دور المؤسسات والنقابات التي استولى عليها أهل النظام وأجهضوا دورها الوطني. 

هذا هو الحوار المطلوب، حوار من أجل تغيير النظام الطائفي/المذهبي الفاسد المرتهن للخارج، ومن أجل المعالجة الجدية لتخوف البعض من التغييرات الديمغرافية ومن السلاح خارج اطار الدولة وحيث سلاح المقاومة هو موجود بسبب عجز الدولة عن القيام بدورها في حماية الوطن.

لا اريد ان انضم الى من ينتظرون الحلول من الخارج، كما حصل في كل تاريخ لبنان الحديث، انما اودّ ان اذكر بأنّ الانقسام الداخلي يقلص دور لبنان الضعيف اصلاَ في تقرير مصيره ويزيد من حجم ارتهانه للقوى الخارجية.