ملحم سلمان يكتب:
التاريخ يعيد نفسه، هل سنأخذ العبر؟
كل التطورات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية الجارية الآن تؤكد ان عالما جديدا متعدد الأقطاب قد ولد لمنافسة الامبراطورية الامركية. فما نشهده هذ الأيام يعكس هذه الحقيقة والتي نراها من خلال افتعال نزاعات إقليمية وحروب اهلية وحصارات اقتصادية ومالية لأعاقة تقدم دور روسيا والصين في عالم جديد متعدد الاقطاب، رغم التغني الغربي بحقوق الانسان والحريات والليبرالية الاقتصادية والمصرفية.
من يتابع الاعلام الغربي في هذه الايام يرى التناغم الانضباطي التام في ادانة ردة الفعل الروسية الدفاعية على استمرا ر حصارها لسنوات بقيادة لولايات المتحدة، من خلال محاولة ضم المزيد من الدول المجاورة لروسيا ومن الاعضاء السابقين في حلف "وارسو" إلى الحلف الاطلسي، إضافة الى تشجيع وتمويل اليمين المتطرف والنارية الجديدة لاحياء العداء ضد روسيا الارثودكسية وتعميق الكراهية العنصرية ضد "العالم الشرقي" عموماً.
الايجابية الوحيدة في هذه الشراسة هي وضوح تحالف الصهيونية مع الغرب الاستعماري وتأكيد الجذور العميقة للصهيونية في اوكرانيا، فاضحاً الادعاءات بالجذور السامية لليهود الغربيين وهو المنطق الاستعماري الذي ما زال يستعمل لتبرير استعمار فلسطين. ان تحالف النازية الجديدة مع الصهيونية يسقط كل المحاولات الجادة الاسرائيلية لخلق "التيار الابراهيمي" كقاسم مشترك بين الدين اليهودي و" الاسلام "المتحالف مع الغرب، وهي محاولة اخرى لزج البعد الديني بمحاولة تلويث الفكر الاسلامي المعتدل ولطمس الحقوق الفلسطينية بالتعاون مع اطراف فلسطينية وعربية.
الاستمرار في اخفاء الحقائق وتزوير وفبركة الاحداث
يصف الاعلام الرأسمالي الخطوة الاحترازية الروسية بالاجتياح والاحتلال لاوكرانيا النوويه التي يراسها، كما يرأس مجلس الوزراء فيها، من حملة الجنسية الاسرائيلية، متناسين عن قصد دعوات روسيا المتكررة منذ العام ٢٠١٤ لجعل اوروبا خالية من السلاح النووي والبيولوجي. ان الجذور الاقتصادية والسياسية للاعلام الغربي تؤكد مواكبته المطيعة العمياء لآلة الحرب الغربية، جاعلاً الحقيقة هي الضحية الاولى فيما يحدث، وحيث الاخبار المفبركة هي سلعة يومية يتم تسويقها. فأسلوب المصنف "ارهابي" في مقاومة الاجتياح الامريكي والصهيوني في بلادنا، تحول الى سلوك بطولي مقاوم" للاحتلال" الروسي في اوكرانيا، بينما يواصل "الداعشي" في تهديم النسيج الوطني ويستفيد الغرب من شيطنتهم للاسلام الوسطي المعتدل.
دفاع عن النفس ام اجتياح؟ ام صراع حضارات؟
إنّ الجذور التارخية لأرتباط روسيا باوكرانيا، والتي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي، لا يمكن انكارها، كما لا يمكن انكار انه خلال الحرب العالمية الثانية حارب قسماً من الاوكرانيين مع النازية كما تحالف سكان سلوفانيا مع إلمانيا هتلر.
إنّ هذه الحقائق الجارحة لروسيا، الاتحاد السوفيتي سابقاً، والتي دفعت عشرات الملايين من الشهداء خلال الحرب العالمية الثانية دفاعاً عن ارضها، مازالت بارزة في الضمير الروسي الذي لن يرض بان يعيد التاريخ نفسه من خلال امتداد الحلف الاطلسي ليضم اوكرانيا وغيرها لفرض الحصار العسكري والاقتصادي ولمنع التقارب الروسي الالماني، ولأحداث تصدع في التحالف الروسي مع الصين.
إنّ الولايات المتحدة الامريكية التي تعهد وزير خارجيتها، بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، بعدم التوجه شرقا لم تحترم هذا التعهد ليضاف ذلك الى عشرات التعهدات الأميركية الاخرى التي بقيت حبراً على ورق كما هي التجارب الأميركية في العالم العربي.
إنّ الموقع القطبي الاحادي الذي احتلته الولايات المتحدة بعد انحلال الاتحاد السوفياتي وتخوفها من قيام روسيا قوية من جديد، جعل واشنطن تحرص على افشال اي تقارب اوروبي مع روسيا وبالاخص بين المانيا الموحدة وروسيا التي تعلمت من تجارب الاتحاد السوفياتي وقررت الانفتاح على اوروبا الغربية وخلق مصالح مشتركة بعيدا عن عقائدية متحجرة. فلقد رحبت روسيا بتوحيد المانيا وباصلاح اقتصاد المانيا الشرقية كما رحبت بالرساميل الالمانية والغربية.
طبعا لم ترض الولايات المتحدة على هذا التقارب الروسي مع أوروبا، فالهدف الأميركي كان بعد انحلال الاتحاد السوفياتي هو تعزيز احادية السيطرة الأميركية على العالم. ولقد استعملت الولايات المتحدة كافة الوسائل والحوافز الاقتصادية والمالية لجذب دول اوروبا الشرقية نحو النظام الراسمالي وللأنضمام للحلف الاطلسي العسكري. كان الهاجس الامريكي ولم يزل التصدي لاي تقارب بين المانيا الموحدة وروسيا. لذا ترجمت واشنطن مشاريع تزويد الغرب الأوروبي بالغاز الروسي بانها سياسة للسيطرة على اوروبا.
كما ان التحالف بين روسيا والصين ارعب الولايات المتحدة لانها رأت فيه نواة لنظام عالمي متعدد الاطراف يقضي على هيمنتها الاحادية ويشكل خطرا على وجودها ومصالحها في آسيا.
ان صعود الصين الاقتصادي والعسكري وتحالفها مع روسيا يرعب الولايات المتحدة كما ارعبها الغاز الروسي والبترول العربي. ان تعامل واشنطن الشرس واللااخلاقي مع الوضع في اوكرانيا لا يختلف عن ممارساتها في ليبيا والعراق وسوريا واليمن ولبنان، حيث وظّفت ودعمت الارهاب لتفتيت النسيج الوطني ونهب موارد هذه الدول.
ولقد ترادفت هذه التطورات مع صعود في شعبية اليمين العنصري في اوروبا وفي الولايات المتحدة وفي ازدياد العداء للإسلام، والذي ساهم فيه الرئيس السابق ترامب، واججته اسرائيل التي نجحت في تسويق فكرة الحضارة اليهودية/المسيحية الغربية وضرورة محاربة الاسلام الجهادي من اجل طمس وتهميش القضية الفلسطينية واظهار إسرائيل كمدافع عن الحضارة الغربية. لكن هذه الاستراتجية تناست ان جذور اللاسامية هي في العالم الغربي الكاتوليكي، والتي اساسها التناقض الكامل بين اليهودية التي لم تعترف بالسيد المسيح، عليه السلام، والمسيحية الأوروبية الغربية التي حمّلت اليهود مسوولية صلب السيد المسيح.
ان التحالف الغربي مع الصهيونية العالمية ضد المسيحية الشرقية وضد الاسلام، يحمل جذور اللاسامية التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية في قرون سابقة، والتي دفع المسلمون واليهود ثمن وحشيتها لعصور طويلة وأدّت إلى هروب يهود اسبانيا نحو المغرب العربي ونحو الدولة العثمانية.
ان التوسع الغربي العسكري من خلال ادخال بلدان اوروبا الشرقية في الحلف الاطلسي هو انعكاس لعنصرية غربية ترفض التعايش وتهدف للسيطرة الاستعمارية على العالم، فمن متابعة تطورات انفصال الكنيسة الاورثوذكسية الاوكرانية عن سلطة الكنيسة الروسية يظهر البعد الاخر للهجمة الامريكية لمنع روسيا من تزعم عالم اورثوذكسي موحد، كما نجحت واشنطن في شرزمة الدول الاسلامية من خلال نشر التطرف والارهاب والتشجيع الخلافات الطائفية والمذهبية في العالم الإسلامي.
شراسة الحملات ضد االتدخل الوقائي لروسيا في اوكرانيا، نراها أيضاً في التحالف الخفي بين المسيطرين على الاعلام وعلى الصارف والمنظمات الدولية الاقتصادية والسياسية وحتى الرياضية والجمعيات غير الحكومية. فالتشديد على شيطنة روسيا قد جعل هذه الحملات بمثابة المسلك العنصري والذي يتجانس مع السلوك العنصري لليمين الغربي وللمنظمات النازية المدعومة من النظام الاواكراني الحالي.
إنّ بعض معالم العالم الجديد المتعدد الاقطاب ستحدد بالاتفاق المنتظر بين روسيا واوكرانيا والحلف الاطلسي حول حقوق روسيا في منع امتداد الحلف على الحدود الروسية.
ماذا عن عالمنا العربي وشعوبه؟
إضافة للتأكيد على اهمية القومية العربية اللاعنصرية واللاقبلية، وعلى دور الدين والمبادئ الروحية والاخلاقية في حياتنا، من المهم أن لا نتجاهل أهمية وأولوية تحرير انساننا العربي من الفقر والجهل والعبودية لحكومات تنفذ املاءات الغرب الذي يحمي وجودها. ولا مفر من ضرورة استعادة حقوقنا في مواردنا الطبيعية وتعزيز المشاركة في الحكم وبناء المؤسسات السليمة وفصل السلطات، فتنمية إنساننا وأوضاعننا ومواردنا لا بديل عنها لكي نستطيع ان نتفاعل مع دول العالم وأحداثه باستقلالية تحفظ كراماتنا وحقوقنا المشروعة.
إنّ الانعتاق من الجهل والقبلية يوجب وجود أطر دستورية وقانونية يحترمها الجميع، كما يوجب وجود عدالة اقتصادية واجتماعية هي مفقودة اليوم، ولا يمكن ذلك ونحن نتشرزم ونتصارع ونخدم المحتل!.