عبد الحميد صيام يكتب لـ(اليوم الثامن):

من الذي يريد الحرب بايدن أم بوتين؟

تخيلوا معي للحظات أن انقلابا يساريا حدث في جمهورية المكسيك واستقرت الأمور لحكومة يسارية، وطلبت هذه الحكومة أن توقع اتفاقية دفاع مشترك مع الاتحاد الروسي خوفا من الجار الأكبر في الشمال فماذا سيحدث؟ وكيف ستتصرف الولايات المتحدة؟ وهل ستقبل أن تنضم المكسيك إلى تحالف مع خصم استراتيجي مثل روسيا؟
هذا ليس سيناريو خياليا فقد حدث عدة مرات في أمريكا الوسطى والجنوبية، وفي كل مرة تقوم الولايات المتحدة بالتدخل عسكريا أو عن طريق إثارة الاضطرابات لإسقاط النظام اليساري. فقد كادت الولايات المتحدة أن تدخل حربا نووية عام 1962 عندما قام الاتحاد السوفييتي بنشر صواريخ نووية في كوبا ردا على محاولة الولايات المتحدة إسقاط نظام كاسترو فيما عرف بـ «خليج الخنازير» وانتهت الأزمة بسحب الصواريخ السوفييتية من كوبا والصواريخ الأمريكية من تركيا.
الولايات المتحدة أسقطت نظام سلفادور أليندي اليساري في تشيلي عام 1973، وغزت بنما عام 1989، وغزت جزيرة غرانادا في الكاريبي عام 1983 وأسقطت نظام موريس بيشوب، وأسقطت النظام المنتخب في الجمهورية الدومينيكية عام 1966 ونصبت ديكتاتورا دمويا هو خواكيم بالاغوير، وفي غواتيمالا أسقطت النظام المنتخب عام 1954 وكان آخر تدخلاتها بإسقاط إيفو موراليس، أول رئيس من السكان الأصليين في بوليفيا عام 2019 إلا أن الشعب هناك عاد وانتخب حزب موراليس مرة ثانية «وفرك بصلة في عين ترامب». ولا ننسى ما قامت به الإدارات الأمريكية في فنزويلا منذ انتخب هوغو شافيس عام 1999 وخلفه نيكولاس مادورو عام 2013 ومحاولات إسقاط النظام عن طريق الانقلابات العسكرية أو تدمير الاقتصاد أو دعم المعارضة أو كلها مجتمعة. فلماذا ليس من حق روسيا ألا تنزعج لضم أوكرانيا إلى حلف الناتو لتطويق روسيا من كافة الجهات بالقوات العسكرية لأكثر من 30 دولة غالبيتها انضم إلى الحلف في العشرين سنة الماضية وآخرها مقدونيا الشمالية عام 2017؟ لماذا حلال على الولايات المتحدة التدخل في شؤون حديقتها الخلفية، كما تسميها، ولا يحق لروسيا أن تحمي أمنها بمنع أوكرانيا وجورجيا من الانضمام للناتو وكلتا الدولتان كانتا جزءا من الاتحاد السوفييتي لأزيد من 70 عاما وتضم كل منهما أقليات روسية كبيرة؟ أيجوز أن يكون هناك قانون للدول الغربية لحماية أمنها ولا ينطبق هذا القانون على غيرها من الدول الكبرى مثل روسيا والصين؟

الوضع الداخلي لبايدن وأسباب التصعيد

يمر بايدن هذه الأيام في أسوأ مرحلة منذ دخوله البيت الأبيض قبل عام كامل. وتشير استطلاعات الرأي الى أن نسبة غير الراضين عن أدائه ارتفعت إلى أعلى مستوياتها لتصل إلى 53.6% وأن نسبة الراضين عن أدائه لا تتجاوز 41% حيث ما فتئتت تنخفض منذ آب/أغسطس 2021 الماضي بعد هزيمة أفغانستان. لكن الأوضاع الداخلية أسوأ بكثير مما هو شائع، ولنراجع مجموعة قضايا:
– وصلت نسبة التضخم 7.5% وهي أعلى نسبة منذ أربعين سنة. وهذا ما يهم الأمريكي الذي كان يملأ خزان سيارته العادية بنحو 30 دولارا عليه أن يدفع الآن نحو 50 دولارا. لقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية ومواد البناء والأدوية والمحروقات والعقارات وغيرها. الناس تشكو من الغلاء غير المسبوق، وبايدن يتخبط ولا يعرف كيف يوقف ارتفاع الأسعار الذي أثر على الأسواق المالية حيث تشهد أسعار الأسهم هبوطا وصعودا يوميا.
– ما زالت جائحة كورونا ومتحوراتها منتشرة بشكل واسع وقد زاد عدد الوفيات عن 900000 شخص وهي أعلى نسبة في العالم قياسا لعدد السكان. لقد وصل بايدن البيت الأبيض وهو يرغي ويزبد مؤكدا أنه سيقضي على الوباء الذي تفاقم بسبب سياسات سلفه ترامب، كما أكد مرارا. لكن الوباء بعد سنة كاملة، ما زال منتشرا ولا تظهر في الأفق بوادر لاحتوائه.
– تقترب الانتخابات النصفية من موعدها في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، التي تعتبر مرآة تعكس مدى رضى الناس عن الإدارة الحالية بعد سنتين تقريبا. ومن الواضح لبايدن والحزب الديمقراطي بقياداته الكلاسيكية أن الحزب سيتعرض لهزيمة قد تكون كبيرة. كما أن هناك العديد من المعطيات تشير إلى عودة الترامبية بقوة إن لم تكن بشخص ترامب فستكون بنماذج مستنسخة عنه قد تكون أكثر تطرفا وشعبوية.
لهذه الأسباب جميعا، إضافة إلى فضيحة أفغانستان وغيرها، يدق بايدن طبول الحرب ليحشد الشعب الأمريكي خلفه لأنه يواجه الخطر الروسي. ألا يذكرنا هذا بطبول جورج بوش وهو يحضر لغزو العراق وموجة الهستيريا التي كانت تتحدث عن الخطر الذي يمثله صدام حسين ونظامه وأسلحة الدمار الشامل والصواريخ بعيدة المدى التي سيطلقها صدام ضد الحلفاء. سلسلة الشيطنة والهستيريا والافتراءات تتكرر من بلد تدخل 70 مرة في دول خارج حدوده لتغيير النظام.

ماذا يريد بوتين؟

نختلف كثيرا مع الرئيس بوتين وسياساته في كثير من المسائل مثل موقفه من سوريا وعلاقته المميزة مع الكيان الصهيوني وغض الطرف عن الغارات الجوية التي يقوم بها الكيان على سوريا دون أي رد فعل روسي. نختلف مع دعمه للانقلابات العسكرية ومساندة دول الاستبداد والمنشقين مثل خليفة حفتر في ليبيا، وعسكر ميانمار والسودان، ونختلف معه في إرسال مرتزقة الفاغـنر إلى ليبيا وتشاد وغيرها. ونختلف معه في تمسكه باللجنة الرباعية حول تسوية القضية الفلسطينية التي ماتت وشبعت موتا ولم تحقق اللجنة إلا إعطاء غطاء لإسرائيل لابتلاع مزيد من الأرض ونقل مزيد من المستوطنين إلى قلب الأرض الفلسطينية وتهويد القدس، وخلق حقائق على الأرض تجعل إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية أمرا مستحيلا. لكننا نتفق مع سياسة روسيا فيما يتعلق بالوقوف أمام البلطجة الأمريكية ومحاولات الهيمنة والاستفراد بالقرار الدولي وتكريس عالم القطب الواحد الذي تعرض للتراجع عام 2003 بعد فشل الولايات المتحدة اعتماد قرار في مجلس الأمن تأييدا لغزو العراق. ومنذ ذلك الوقت والولايات المتحدة تشهد انحدارا في مكانتها العالمية. كما برزت مجموعة قوى تبحث عن مكان لها في المنظومة الدولية من بينها الصين وروسيا ومجموعة دول بريكس التي تضم البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، وتحول مجلس الأمن الدولي من آلية خاضعة لإملاءات الولايات المتحدة بين عامي 1990 و2003 إلى مجلس متعدد الأقطاب لا يتم اعتماد قرار إلا بالتوافق.
لقد أعاد بوتين منذ تولى قيادة البلاد عام 1999 لروسيا مكانتها ودورها بعد أن مرغ بوريس يلتسين هيبة البلاد في التراب، وكان الغرب سعيدا به وراضيا عن أدائه حتى ولو قصف مقر الدوما الروسي بقذائف الدبابات. عشرون سنة في الحكم، رغم كثير من التحفظات على آلية الانتخابات، إلا أن روسيا تعافت اقتصاديا وأصبحت لاعبا أساسيا على المستوى الدولي لا يمر قرار بدونها سواء في سوريا أو ليبيا أو اليمن أو إثيوبيا أو الصومال أو مالي أو ميانمار أو كوريا الشمالية.
لقد أحس بوتين أن حلف الناتو بدأ يقترب أكثر فأكثر من عنق روسيا بعد توسيع الحلف ليشمل دول البلطيق والبلقان وأوروبا الشرقية ولم يبق إلا جورجيا وأوكرانيا. إضافة إلى ذلك قامت الإدارة الأمريكية بنشر مزيد من القوات في الدول القريبة من روسيا مثل رومانيا وبولندا وإستونيا. وقام بايدن بتزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة بما في ذلك صواريخ «جافلين» المضادة للدبابات، وأنفق ما يزيد عن 700 مليون دولار لتحديث القدرات الدفاعية والتسليحية والبنى التحتية لأوكرانيا. من جهة أخرى أطلق بايدن حملة شيطنة ضد بوتين وراح يؤكد مرة وراء مرة أن غزو أوكرانيا بات وشيكا وراح يحدد مواعيد بدء الهجوم الروسي مع أن روسيا ما فتئت تنكر نيتها لغزو أوكرانيا. الرئيس الأوكراني، فلودمور زيلنيسكي، القادم من عالم الكوميديا، تنقصه الخبرة وقلة الحيلة وقد اتسمت سنواته الثلاث بفضائح الفساد ومحاباة الأقارب والأصدقاء وانخفضت شعبيته إلى أقل من 25 % بعد أن حصل في انتخابات 2019 على 73%. لقد سلم أمور أوكرانيا إلى الولايات المتحدة لتنصب الشرك للاتحاد الروسي، فإما أن يقع فيه ويتم إنهاكه عسكريا أو يتم فرض جزاءات قاسية ويتم إنهاكه اقتصاديا. وفي كلتا الحالتين، يجري ضرب الاتحاد الروسي إما عسكريا أو اقتصاديا أو بكليهما ثم ينتقلون للصين للاستفراد بها. لكن بوتين ثعلب السياسة الماكرة وخريج الكي جي بي، أوقعهم في شر أعمالهم فبدل الحرب الشاملة، اعترف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك وقرر إرسال قوات حفظ سلام وإقامة قواعد عسكرية هناك. أي أنه تحكم في أوكرانيا دون أن يحتلها عسكريا وأصبح لديه الآن من أوراق التفاوض ما يجبر قيادات الناتو والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة أن تفاوض من موقع ضعف مضطرة أن تصل معه إلى اتفاقية أمنية شاملة تأخذ بعين الاعتبار مخاوف كل الأطراف لا طرف واحد.
*  محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز بولاية نيوجرسي