هشام بن الشاوي يكتب لـ(اليوم الثامن):

الوزغ والشحرور

صباح آخر... صباح مشحون بالأحداث التافهة كهذا الوجود العبثي، وجدتني فيه غارقا في نقاشات عقيمة، وآثرت أن ألون هذا الزمن الاحتفالي ببعض الدمع الشفيف؛ البكاء في الأعياد صار طقسا من طقوس الاحتفاء منذ زمن بعيد!

 سوف ألوك خبز هذا الحزن مع بعض مربى نجيب الفنانة الأمازيغية، التي تذبحني دوما، بلا شفقة: فاطمة تالگاديت. فمن يبلغها أنني شهيد نواحها الأطلسي؟!

 في يوم المرأة، أجد صباحي مزدحما بكل هذه التفاصيل العابرة، كريح تداعب حقلا قاحلا، فتنثر الكثير من غبار الأسى في حديقة القلب.  ألأنني نمت مبكرا على غير العادة، استيقظ الحزن مبكرا في هذا الصباح؟

قبل شروق الشمس، وبفضل هذه الساعة الإضافية، التي تجعلنا نسبق العصافير في استقبال الصباح، مازحت صديقي البقال بأن هذا اليوم عيد المرأة، لم يعجبه مزاحي، حاول أن يغلف تعليقه الساخط ببعض تلك الثورية الشعبية المكبوتة، وكان المذيع يشيد بإنجازات المرأة المغربية في اليوم العالمي للمرأة، علقت عليه بسخريتي اللاذعة: "لماذا لا تقول أي شيء، حين يكتبون في مواقع التواصل الاجتماعي: لا لإجبارية التلقيح، أو أخنوش ارحل، وتكتفي - كالآخرين - بمشاهدة مباريات كرة القدم، وتتحسر على ذلك الهدف الضائع".

صديقي يعرف - سلفا- أنني أكره كرة القدم، وأعتبرها أفيون الشعوب الجديد، الذي يخدرون به الشعوب...

واصلت حديثي ساخرا : "أنت تخاف أن يغلقوا دكانك!"، وتفاديت الرد على تعليق مشاكس لجار مازحه بأن أخنوش سوسي مثله، لأنني لا أعترف بمثل هذه النزعات القبلية حتى لو كانت ستشيد بقبيلتي، لا أعترف بتصنيف البشر، كما لو كانوا سلعا : قبطي، مسلم، عربي، أمازيغي، كردي، سني، شيعي، آشوري، مصري، برازيلي... إلخ، (وبلا فخر: كل هؤلاء في صفحتي الفيسبوكية)، لأننا - ببساطة- كلنا أبناء آدم وحواء!

ومع ذلك لست ملاكا، لست رجلا صالحا. ليلة البارحة، كان الجو باردا، وكأن الشتاء نسي بعض أغراضه، وعاد ليبحث عنها. أنا حفيد فلاحين، لهذا أنا مبتهج بهذا المطر المتأخر،  مبتهج من أجل مواشي البسطاء.

 ليلة البارحة، كنت محرجا من مشاكسة زوجتي لي أمام أبويها، كانت تقول: "كاين البرد بزااف..."، ونتبادل الابتسام الملغوم، لأنني سبقت العالم في الاحتفال بعيد المرأة. قلت لزوجتي بالأمس: "شحال ديال العيالات زوينين دازوا علي هاد الصباح".

كنت مشوش الفكر والعاطفة، اضطررت أن أعتذر لها عن تلك المزحة البريئة بأنني أحاول استعادة نفسي بأي شكل. تنتابني حالة غريبة، بعد كتابة أي نص جديد، لاسيما القصص القصيرة، التي لا أعرف لماذا صرت أكتبها بنفس روائي، مثقل بالتأمل والتساؤلات...كنت أريد الخروج من أسر ذلك النص، وأنا أتأمل العالم من خلال نافذة أخرى، بعد أن كتبت نصا مجنونا عن الحب، عن الحياة: "لماذا لم تغلقي النافذة؟!".

في تلك الحالة، كنت رجلا لا يصلح للحب، لا يصلح لأي شيء. كان يجب أن أخرج من مناخات نص يحتفي بالحب الأفلاطوني، بالجنون الشهي، ومع ذلك قتلت ذلك الوزغ ليلة البارحة، لأنه تسلل إلى البيت، ليؤنس وحشة رجل وحيد، تركته في مكانه.. ذيله يتلوى في جهة، وجثته في جهة أخرى. لم أرغب في رؤية الدم. لا أحب أن يعلن الأب القاتل قابيل عن وجوده في دمي، كأن في عروقي الكثير من دم هابيل، ربما، لهذا تتقافز الدموع من عيني بسرعة، لكي تهجو هذا العالم البغيض، ومع ذلك سكبت فوق الوزغ كمية كبيرة من المطهر المنزلي، لأن الحذاء المسلح لم ينجز مهمته، كما ينبغي... 

كالعادة، سمعت ذلك الشحرور يسبح لله بعد صلاة الفجر، التغريد يشي بأنه يختبئ بين أغصان شجرة ما في حديقة المسجد. لم يكن في جيبي الهاتف المحمول، تركته في محل العمل، حتى أنام مبكرا، وذهبت لإحضاره من أجل قنص لحظات نورانية لا تتكرر، ويصعب القبض عليها نهارا.

 لقد طار، رحت أبحث عنه في أزقة الحي. سمعته فوق أحد الأسطح. لم أرغب في رفع عيني إلى الأعلى. ربما، يطل أحد الجيران، ويفسر الأمر خطأ، والشمس لم تشرق بعد!

.فضلت تسجيل مقطع فيديو لزقاق تغمره ضياء الإنارة العمومية، ومن بعيد، لاح ذلك النباش العجوز، قادما، وهو يمتطي صهوة حصان ريح متهالك، لعنت هذه المصادفة البائسة، ثم اكتشفت أنني لم أضغط على زر التسجيل. لا بأس، فقد تعودت على تضاؤل مساحة الجمال في حياتي، يوما بعد يوم، بينما تصحر القبح يبتلع خضرة حقل العمر، بلا هوادة.

بعد تناول وجبة الفطور، سعيت إلى إخفاء آثار جريمة ليلة البارحة، وأنا أمني النفس، بل أتحايل عليها، كما لو كانت طفلاً يسهل خداعه، بأن أحاول تسجيل مقطع لذلك الشحرور، الذي أسمعه منذ عامين، وأفكر في من سينوب عنه، بعد أن ينقضي عمره.

 بالأمس، سألت ابنتي ياسمين على سبيل المزاح: "ما اسم هذا الطائر، الذي يزعجنا في هذا الصباح؟". ولن أغالي إن قلت ربما تكون التلميذة الوحيدة في مدرستها، التي قد تعرف اسم ذلك الطائر، قبيح التغريد ، فردت علي بنبرة واثقة: " بيبيبط". 

إنه درسة المنازل، ذلك الذي سمعت ارتساماته وحده، حين أجرى أب تلميذة حوارا مع مدير المؤسسة التعليمية، بمناسبة اليوم الأول للامتحانات.. لو كان ذلك الأب مولعا بتغاريد الطيور، كان سيبحث عن مكان آخر، يغرد فيه البلبل أو الشحرور، أو على الأقل، يكتفي برشق العصفور بحجر، حتى يتوقف عن التباهي بفائض هرمونات التكاثر، بيد أن ذلك الأب مثل من يظنون تغريد البلبل والعندليب شدو ملك الشرشوريات. ياسمين تعرف هذا العصفور، لأنني طالما طلبت منها أو من أخيها أن يهشا  باليدين عليه، لكي يبتعد، خوفا من أن يفسد تغاريد الحسون. 

الآن، لم أعد أربي سوى خيباتي وأحزاني في قفص واقع مغربي، يحتفي بالقبح.

أنا - الآن- رجل  يشبهكم، رجل تافه مثلكم، مولع بالتلصص، وهلم جرا...

شكرا، لكل من اغتال مساحة من الجمال؛ شكرا لمن ابتدع قانون الحيازة، وترك عاهرات روتيني اليومي يفسدن أخلاق أبنائنا، ويدمرن قيم المجتمع، بل إن بعض النساء لم يقاومن إغراء دولاراته، وفتحن قنوات في ذلك الماخور الأحمر...

مرحى،  سنتحول جميعاً إلى شعب يحترف الاستمناء!

لقد تسرطن القبح، أنا على وشك أن أفقد براءتي؛ حتى بصماتي تنكرت لي في هذا الصباح. لقد طلب مني الموظف في دائرة الشرطة أن أضع أصبعي، أكثر من مرة.

بدا الأمر مملا هذه المرة، لا يغريني بالكتابة عنه مرة أخرى، وعاتبتني تلك الموظفة متسائلة: "لماذا تستعمل معقما رخيصا...؟! ".

وجدتني في موقف  لا يستحق أن أنوه بالريح، التي تعوي في حسابي البنكي.. هناك، من لم يحس بمعاناة الكثيرين منا، خلال أعوام فيروس صنع للانتقام من اقتصاد دول عظمى، فدفع فقراء العالم ثمن هذه الحرب القذرة.. اقتصاديا، اجتماعيا، ونفسيا. ثمة قصص حب نسفت، بسبب إكراهات هذا الوباء. أسر باعت أثاثها، لكي لا يموت الأبناء جوعا، هناك من انتحر بسبب الحجر الصحي، و...و.. فكرت في هذه الأشياء، وأنا أنظر إلى الموظفة، التي تدس يديها في جيبي معطفها.

بعد العودة إلى العمل، طلبت قهوة، هنأت العاملين في المقهى بهذا العيد، كنوع من المزاح، في واقع لا يعترف بأي شيء.. واقع يسحق الرجال والنساء، الأطفال والشيوخ على حد سواء. قال لي النادل إن المرأة الوحيدة، التي تستحق أن يهنئها هي أمه، لأنه غير متزوج. أجبته بأن هذا عيد المرأة، المرأة وليس النساء: هذه المرأة هي أمك، أختك، زوجتك، صاحبتك، جدتك.. المرأة واهبة الحياة.

 لاحظت أن كلام صديقي سعيد قد أثار حفيظة الشابة المشرفة على عصارة القهوة، قلت لها ساخرا: مغاديش نديو عليه، راه غير صباغ..

إلى أمي، إلى زوجتي، إلى صديقاتي في فيسبوك وتويتر، إلى كل امرأة..

كل عام وأنت شمس هذا الوجود..

كل عام وأنت العيد.

 

الجديدة، 8 مارس 2022