د. عبد يونس لافي يكتب لـ(اليوم الثامن):
إعْرِفْ مع من تَتَكَلَّم، وكيف تَتَكَلَّم، ثُمَّ تَكَلَّمْ
هكذا تَعَلَّمْتُ،
أوهكذا عُلِّمْتُ وَرُبّيتُ،
وما أظُنُّ ذلك إلّا من أدَبِ الكلامِ بلْ أوَّلِيّاته.
في صلاةِ الفجرِ قبلَ أيامٍ، تَوقَّفْتُ قليلًا،
وانا أسمعُ من أَمَّنا يقرأُ من الكَهْفِ:
" فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتَاهُ آتِنا غَدَاءَنا، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَبا "
ثم اسْتَمَرَّ فَقَرأ:
" فَوَجَدا عَبْدًا مِنْ عِبادِنا اۤتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْما.
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدا "
دافَعْتُ ما دارَ في رأسي،
مُحاوِلًا أن أُجْبِرَ نفسي على مُتابعةِ الإمام،
لِئَلّا أجْرَحَ خُشوعيَ المجروحَ أصْلًا،
أَفْلَحْتُ بعضَ الشيئِ،
لكِنّي بقيتُ مُتَفاعِلًا مع ما سَمِعْت،
وهكذا يُعاني صاحِبُكُم في كلِّ صلاةٍ جَهْرِيَّةٍ،
فتراني تحملُني افكاري في تحليلِ ما أسمعُ،
فتَأخذُني جَمالِيَّةُ القراۤنِ بعيدًا،
ثم أُمْسِكُ لِأُتابِعَ سِحْرَ التركيبةِ القُراۤنيةِ المُتَماسِكَة.
بعد ان فَرَغْتُ من الصلاةِ،
وَجَدْتَني أعودُ إلى ما قرأ،
فتوقَّفْتُ مَلِيًّا،
عند ما تحملُهُ تلكَ الآياتُ التي سَمِعْتُ،
واُدرِكُ مُسْبَقًا،
أَنَّ سورةَ الكهفِ زاخِرةٌ بالْعِبَرِ.
ما اسْتَوْقَفَني هو أُسلوبُ موسى،
وهو يخاطِبُ فَتاه.
ليس الموقفُ هنا ان أتحدَّثَ عن هُوِيَّةِ هذا الفتى،
ولماذا كان هذا الإصرارُ من موسى،
على ألّا يَبْرَحَ حتى يَبلُغَ مَجْمَعَ البحريْنِ،
أو يمضيَ أبعدَ من ذلك ولو كَلَّفَهُ وقتًا ومَشَقّة،
ولماذا كان موسى ـ ذو العزمِ عِلمًا وعَمَلًا ـ
عازمًا على تحقيقِ ما أراد.
أهِيَ رغبةُ موسى أم هو ربُّ موسى أرادَ ان يُعَلِّمَه؟
لسنا هنا بِخائِضينَ في كلِّ هذا،
فما يعنينا:
كيف خاطبَ موسى غُلامَهُ اذ قال له:
(اۤتِنا غَداءَنا)
ثم كيف تغيَّرَ نَمَطُ خِطابِهِ مع الخَضِرِ:
(هل أتَّبِعُكَ على أن تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدا).
أسلوبُ موسى في الحالتين،
يُعطينا درسًا في أدبِ الكلامِ،
لِنَعرِفَ مع من نَتَكَلَّمُ، وكيف نَتَكَلَّمُ!
فاذا تَكلَّمْنا، بَلَغْنا ما اردْنا.
فتى موسى الذي اصْطَحَبَهُ،
كانت لِموسى الأِمْرَةُ عليه،
فلم يكن إلاّ غُلامَهُ، الذي اخْتارَهُ لِرِفْقَتِهِ وخدمتهِ في السفر،
فلا تَكَلُّفَ بين الطرفين.
اۤمِرٌ لا يَجِدُ حَرَجًا اذا أمرَ،
وَمَأْمورٌ لا يجدُ ثِقَلًا في تنفيذِ ما أُمِرَ،
فكانت (اۤتِنا غَداءَنا)!
نعم لا ضيرَ أن تسألَ صغيرَكَ لفعلِ شيئٍ ما،
او تِلميذَكَ للقيامِ بنشاطٍ تنتَظِرُهُ منهُ،
حتى اِن جاء ذلك بصيغةِ الأمرِ،
دونما قَهْرٍ او تَعَسُّف.
صيغةُ الأمرِ هنا من المألوفِ المعروف.
ناولْ، حاولْ، اكتُبْ، اجلُبْ،
الى ما يماثِلُها من أفعالِ الأمرِ مقبولةٌ جدًّا،
ولَربَّما جَلَبَتْ بعضَ السرورِ الى نفوسِ الصغار،
حين تصدُرُ من كبارٍ،
يَتَّسِمونَ بسماتِ النُّضْجِ والمعرفةِ،
مشفوعةً بالرَّأْفةِ والرِّقَّةِ والحَنان.
نَمَطُ الكلامِ كما تلاحِظُ - يا ابْنَ العمِّ –
قد تغيَّرَ حينما تكلَّمَ موسى مع الخَضِر.
كيف لا وقد أُلْهِمَ موسى سَلَفًا:
أنَّ الخَضِرَ شخصٌ من طرازٍ خاصٍّ،
من حيثُ كونه عبدًا من عبادِ اللهِ،
والعبدُ هنا:
هو أرقى ما يصلُ إليهِ انسانٌ من رُتبةٍ وكرامةٍ،
سِيَما وقد نُسِبَتْ هذه العُبوديَّةُ للذاتِ الإلهيَّة.
أضف الى ذلك:
أنَّ هذا الطرازَ الخاصَّ من العبادِ،
أُوتِيَ رحمةً من طرازٍ خاصٍّ أيضا،
حيث مصدرُها من (عندِ) الله،
و(العِنْدِيَّةُ) هنا،
جاءت تَحمِلُ بين طيّاتِها معنىً خاصًّا.
ثمَّ أنَّ هذا العبدَ تمتَّعَ بخَصْلَةٍ أُخرى،
أنَّه عُلِّمَ عِلْمًا يختلف عن العلمِ الذي خُصَّ به موسى،
ولو أن المانحَ واحد.
فإذا كان اللهُ قد منحَ موسى علمًا،
فَاِنَّما كان لكي يُعلِّمَ قومَهُ،
ويستعمِلَهُ في تنظيمِهِم وإدارةِ أحوالِهِم،
أما العلمُ الذي عَلَّمَهُ اللهُ عبدَهُ الخَضِرَ،
إنما هو علمٌ صدرَ عن ذاتِ اللهِ مباشرةً ،
فَقُذِفَ في قلبِ الخَضِر،
فَرَأى ما لا يراهُ صاحبُهُ وإن كان نبيًّا،
له الموقعُ الأسمى والأرْجْحِيَّةُ،
في أمورٍ معيَّنَةٍ لا شأنَ للخَضِرِ فيها.
العلمُ الذي يأتي من (لَدُنِ) الله،
يُمَكِّنُ الممنوحَ أن يرى ما لا يراهُ الآخرونَ،
مهما تمتَّعوا من صفاتٍ مُثلى.
إنه علمٌ مَنوطٌ بأحداثٍ تَقَعُ،
وأحوالٍ تَحِلُّ،
فَتُدْهِشُ من يراها وِفقَ الحساباتِ التقليدية.
لذا اجْتمعَ لِلخَضِرِ (العِندِيَّةُ واللدُنِّيَّةُ)؛
عِندِيَّةُ الرحمةِ ولَدُنِّيَّةُ العلمِ ،
اللتان لا ينالُهُما إلاّ خَواصُّ الخَواص.
كان موسى قد هَيَّأَ نفسَهُ لمقابلةِ الخَضِرِ،
فحين راۤه خاطَبَهُ خِطابًا مغايِرًا للكيْفيَّةِ التي خاطبَ فيها فَتاه،
لأنه يعرِفُ مع من يَتَكَلَّمُ فانْتقى كلماتِهِ،
فَتَكَلَّمَ بأدبٍ جَمٍّ مُلْتَمِسًا (هل اَتَّبِعُكَ؟).....
وَيْكأنَّهُ يقول للخَضِرِ:
ها أنذا قد هَيَّأْتُ نفسي،
لكي أعملَ جَهْدي ما اسْتطعتُ،
لأتعلَّمَ منك مُتَّبِعًا مُطيعا،
وإني لَأعرِفُ أنَّ غايتي ليست سهلةً ولكني لها؛
لو سَمَحْت؟
أنا أُريد أن أتعلَّمَ منك.
أعرِفُ أنَّ ما تحمِلُهُ من علمٍ لا يحملُهُ الآخرون،
ولن يِتِأتّى بالطريقِ السَّهْلِ،
إنَّما كُنتَ قد أُلْهِمْتَهُ،
وأنا لا اريد إلّا أنْ أسْتَرْشِدَ،
وأنهلَ من معينِ ذلك الرُّشْدِ الذي عُلِّمْت.
ما أخْلَصُ إليه:
علينا ان نَضَعَ مَن كان كبيرًا،
في سِنِّهِ او علمِهِ او خُلُقِهِ او ايٍّ من خِصالِ الرِفْعَةِ ،
في مكانهِ الذي يَسْتحِق،
فَإنْ تَكَلَّمْنا،
تَكَلَّمْنا بأدبٍ دونَ تطاوُلٍ او تَعال،
فالمرءُ مخبوءٌ تحتَ لِسانِهِ،
وإن قُدِّرَ لك ان تجلِسَ بين العلماءِ،
فاحْفَظْ لِسانَكَ؛ هو أوْلى، سلام.