د. ساسين عساف يكتب:

أفكار في الانتخابات النيابية اللبنانية

الانتخابات النيابية في مراحلها كافة منذ الاستقلال حتى اليوم تشهد شحنا" طائفياً وفورة عصبيات محلّية وولاءات بدائية .. ويروّج لها اعلام مضلّل ومنحاز ومرهّب يقوم بحملات دعائية تتّسم بالغوغائية .. وعيبها الاكبر فيض صناديق المال الانتخابي .. كلّ ذلك في ظلّ عناوين سياسية وتنموية، منها : العمل والطبابة والتعليم والطرقات.. والعدالة والحريات والديموقراطية وحقوق الانسان  والتنمية والاصلاح والمرأة والشباب.. وبناء دولة الحقّ وحكم القانون.. ودور لبنان وموقعه وحريته واستقلاله وسيادته..  

تحكّم بهذه العناوين خطاب انتخابي متوتّر لإحداث ردّات فعل واستدرار عطف الناس ..

وغابت عنها أحزاب وطنية فاعلة .. وحضرت فيها حزبيات  وعائليات اجتمعت على العصبية..

وهي كانت تجري وفق تقسيمات دوائر وقوانين انتخابية غبّ الطلب تخدم مصالح الطبقة السياسية الحاكمة، قوانين غير عادلة  ومنحازة لمناطق ومجموعات وأشخاص ومسيئة الى صحّة التمثيل وعدالته وفعاليته. لذلك طالما كانت تقوم في اثرها سلطات لا علاقة لها بالناس وعاجزة عن تأمين الانتظام العام في الحياة الوطنية ..

أمّا تقسيم الدوائر فكان مصطنعاً  لا يسوّغه تواصل جغرافي أو ديموغرافي أو مصلحي . كان دائماً في خدمة تحالفات السلطة وأزلامها. 

النفقات الانتخابية  المالية كانت خيالية ماجعل الناس يتداولون  في كلّ دورة أرقاماً ضخمة أنفقها هذا المرشّح أو ذاك ابتياعاً لأصوات أو رشوة لإعلام أو حجزاً لمقعد لدى زعيم أو نافذ أو مرجع مسؤول.. وهنا بالطبع يطرح السؤال عن مبدأ تكافؤ الفرص بين من يملكون المال والذين لا يملكونه.. ويطرح سؤال آخر حول مصدره.. أمال خاص هو أم مال عام؟ شركات؟ مصارف؟ هيائات دولية؟ سفارات؟.. والسؤال الأهمّ كان يطرح وما زال حول كيفية تعويضه أو إعادة تحصيله.. 

هذه الوقائع كانت تتبدّل من دورة الى أخرى وفق تبدّلات موازين القوى ليس فقط القوى الداخلية انّما أيضاً القوى الخارجية، فالسفراء الأجانب كانت لهم أدوار في تسمية المرشّحين وتركيب اللوائح . السلطة وأجهزتها كانت تمارس الضغط على الموظّفين.. المقامات الدينية كان لها تأثير كبير في توجيه الرأي العام.

لذلك في مسألة القانون العادل يطرح السؤال الآتي:

هل القانون العادل وحده يضمن الحريات وتكافؤ الفرص للمرشّحين وللناخبين أو التمرّس في الثقافة الانتخابية خصوصاً والثقافة السياسية عموماً؟.. ليس صعباً من الناحية التقنية وربّما السياسية وضع قانون يحدّد سقف النفقات وقواعد استخدام وسائل الاعلام العام والخاص ويعاقب الراشي والمرتشي، يمنع الاثارة الطائفية وسائر العصبيات كافّة ويتضمّن بعض التقنيات والآليات وهذا ما حصل منذ دورة 1918 وليس صعباً كذلك وضع قانون ينص على استخدام البطاقة الانتخابية الممغنطة ومكننة الفرز، ويخفّض سنّ الاقتراع الى الثامنة عشرة، ويمكّن المرأة وذوي القصور الجسدي، ويحوّل العمل الانتخابي من حقّ للمواطن الى حقّ له وواجب عليه، ويوزّع الدوائر على قاعدة التواصل الجغرافي والديموغرافي والمصلحي/التنموي والاداري.. انّما الصعوبة هي في بناء المعرفة الانتخابية والثقافة السياسية..

المرشّح مثلاً يعرف من ماضيه وإنجازاته، مواقفه الراهنة، رؤياه المستقبلة ، انتمائه السياسي، التزامه الوطني والقومي، حضوره الثقافي ومؤهّلاته التشريعية، أخلاقياته وسلوكه العام، نجاحاته في قطاع عمله، برنامجه الانتخابي..

فكم من المرشّحين تتوافر فيهم جميع هذه المواصفات؟ .. وهي إن توافرت في البعض فبنسب متفاوتة .. معظمهم كان يكتب أو يستكتب ورقة يسمّيها برنامجاً انتخابياً .. وأوراق الجميع متشابهة..! وهي بدون مصداقية، مفلسة، لا يصدّقها الناس، مرتجلة ومحلّية بامتياز، واعدة بالخدمات ومليئة بالشعارات.. ولكنّها تبقى فولكلوراً انتخابياً وضرورة شعبية.. ما يعني أنّ الوعي السياسي العام ما زال دون المنسوب الذي يسمح بالاختيار بناء على قواعد ومعايير علمية وموضوعية. الزبائنية تعلو كلّ القواعد والمعايير.

أمّا تركيب اللوائح خصوصاً في الدوائر الكبرى يصنّف المرشّحين بين اثنين:

"مرشّح نازل على الانتخابات" (مرشّح معركة) و "مرشّح طالع بالانتخابات" (مرشّح تزكية أو محدلة) ويصبح نائباً بالتعيين انتخبه صاحب المحدلة واقترع له الناس.. هنا الانتخاب يصبح إقتراعاً أو إدلاء بالصوت!!..

 والاعلام الانتخابي في المجتمعات الواعية سياسياً يركّز على "مرشّح رأي وموقف" أمّا في المجتمعات المتخلّفة سياسياً فيركّز على "مرشّح صورة ومال".

التنافس على السلطة ومبدأ تداولها في الأنظمة الديموقراطية يسمحان بالكلام على "مرشّح معارضة" و "مرشّح موالاة" .. أمّا في لبنان فهذه القاعدة لا تستقيم وتبدو غير صالحة للفرز بين المرشّحين فالانتقال من موقع الى موقع تحدّده المصالح الذاتية والظرفية والرّغبة الدائمة في الوصول.. الانتهازية والوصولية هما من سمات المرشّح في كلّ لبنان.. المبدئيّة معدومة وإن هي وجدت فهي لا تصمد وسرعان ما تنسحب من المعركة..              

تركيب اللوائح في الأنظمة الديموقراطية ينطلق من وحدة المواقف والخيارات السياسية، من وحدة الانتماء السياسي أو الحزبي.. أمّا في لبنان فمنطلقه وحدة المصالح ووحدة الوسيلة (محدلة، قطار، بوسطة) التي سرعان ما ينزل منها الركّاب عند أوّل محطّة أو استحقاق أو منعطف.. فالتحالفات الانتخابية تفرضها الظروف المتبدّلة واذا بالأسماء تتقاذفها اللوائح فترتفع أسهم هذا وتنخفض أسهم ذاك.. والأسماء لا يجمعها جامع سوى الرغبة في الوصول.. ومن نتائج ذلك مجلس نيابي قوامه تحالفات انتخابية عابرة لا أحلاف سياسية دائمة ذات فاعلية في التغيير والاصلاح والتطوير..

أمّا أصحاب الحلّ والربط في عقد التحالفات وتركيب اللوائح والتلاعب بأسماء المرشّحين فغالباً ما يكونون من طبقة الاقطاع المالي والسياسي والميليشيوي الطائفي في حالاته الثلاث،  يتسابقون في الركض وراء الأثرياء من رجال مال وأعمال لتمويل العمليات الانتخابية.. والنتيجة تكون طغيان هؤلاء على أهل المهن والتشريع في المجلس النيابي..

النتائج التي تفرزها الانتخابات بالشروط المبيّنة أعلاه تنبئ أنّ معظم نوّاب لبنان  ليسوا من أصحاب الحلّ والرّبط بل هم تابعون لمركزيات زعماء الطوائف والمذاهب والسلالات..

ويبقى السؤال: المواطن، أناخب هو أم مقترع؟

المواطن في مجتمعات الوعي السياسي والثقافة الانتخابة العالية يقترب من صناديق الاقتراع بارادة حرّة ومسؤولية في الاختيار واقتناع بالمشاركة من أجل التغيير وتجديد الحياة السياسية وتعميق التجربة الديموقراطية فيجنح الى انتخاب الشخصيات التغييرية التجديدية من قوى المجتمع المدني (أحزاب، نقابات، تكنوقراط ، رجال علم وقانون ومهن حرّة، منظمات حقوق الانسان والدفاع عن الحريات والبيئة، شخصيات وطنية وقومية..)  وتكون النتيجة إنشاء مجلس نيابي مدني وطني لا ملّي أو طوائفي هشّ وغير قادر على التشريع للدولة الحديثة المدنية..

أمّا المواطن في مجتمعات الغباء والعصبيّة فيقترب من صناديق الاقتراع بانقياد عائلي أو عشائري أو محلّي أو طائفي متعصّب أو حزبي مغففّل أو رشوي إنتفاعي .. ارادته تكون مقيّدة بالانتماءات البدائية أو بالمال أو بالخدمة أو بالمصلحة الشخصية أو بالولاء التقليدي.. انّه مجرّد صوت.. انّه مجرّد زبون.. وتكون النتيجة تشكيل مجلس نيابي من طبقة سياسية تعيد انتاج نفسها تتحكّم بمفاصل السلطة، تتوازع المغانم وتمنع تطوير النظام السياسي الاّ بالقدر الذي يخدم مصالحها ويضمن لها الاستمرار ..

نتائج الانتخابات في لبنان تبرز أنّ المواطنين، بأغلبيتهم، كانوا أصواتاً وزبائن .. كانوا مقترعين لا ناخبين.. 

أخذاً بالاعتبار أنّ الحياة السياسية تتجدّد بتجدّد الطبقة السياسية فمفتاح التجدّد هو قانون الانتخابات النيابية..

القوانين السابقة نتائجها باتت معروفة. فما هو القانون البديل الذي يؤمّن صحّة التمثيل وعدالته وفعاليته ونزاهته؟ القانون القادر فعلاً على احداث انقلاب نوعي في الحياة السياسية اللبنانية فيصحّ عندئذ القول ان النظام اللبناني هو نظام ديموقراطي برلماني.. فللحياة البرلمانية معايير دولية منها: صحّة التمثيل, الكفاءة وفاعلية التشريع والمراقبة والمساءلة والمحاسبة، الاستقلالية والنزاهة. أين لبنان من كلّ هذا؟!