د. ساسين عساف يكتب:

مجتمع المعرفة والمعلومات والتجدّد الحضاري

قانون التحوّل في بنية المجتمع ومضمون الهويّة الحضارية هو القانون الحاكم لمسيرة الشعوب في  سياق تطوّرها التاريخي. من أحكامه الحتمية أن كلّ ما هو تاريخي لا يمتلك في ذاته كامل قوّة دفعه أو تحوّله بل هو مشروط حكماً بتأثيرات من خارج حدوده.

المجتمع العربي الراهن يواجه تحديات الخارج العاصف من حوله وداخله عبر الضغوط السياسية والأعمال الإرهابية والإعتداءات الصهيونية والاحتلال العسكري المتعدّد الوجوه  من جهة، وعبر ثورة الاتصالات والتكنولوجيا المعلوماتية من جهة أخرى. إنّه في قلب الحدث التغييري.

ما يعنينا في هذا السياق هو مجتمع المعرفة والمعلومات الواجب بناؤه لإغناء هويّتنا الحضارية، وذلك:

بتطبيق شرعة حقوق الانسان: مقدّم تلك الحقوق الحريات العامّة والخاصّة وفي مقدّم تلك الحريات الحرية الفكرية التي منها الحرية الاعلامية، حرية الرأي والتعبير والاستعلام والبحث، وهذا ما يفرض مجموعة إجراءات كإلغاء القوانين والتدابير الادارية المقيّدة للحريات وتفكيك أجهزة "الأمن الثقافي" المهيمنة على مؤسسات الابداع والانتاج المعرفي ووسائل استجلابه ونشره.
بتطبيق مبادئ "الإعلان العالمي للتنوّع الثقافي": التعدّدية الثقافية هي المكوّن الرئيس لمجتمع المعلومات ما يفرض الإعتراف بالآخر وبمشروعية تمايزه وتالياً الانفتاح عليه والتواصل معه، ويفرض كذلك تحرير المجتمع من تسلّط الايديولوجيا الواحدة ومدرسة التوجيه السياسي والفكري (تسلّط حزب أو عقيدة أو شخص أو فئة...) وإتاحة الفرص أمام قوى المجتمع الحيّ المتجدّد لامتلاك المؤسسات الثقافية ومنها المؤسسة المعلوماتية، فالانتاج المعرفي يصنعه المجتمع.
ببناء الاقتصاد المنتج: التنمية الشاملة، القطاعية والبشرية، تضاعف وتراكم الناتج الاقتصادي ومعدّلات النموّ الى جانب بلوغ حياة فكرية ومعرفية علمية وتكنولوجية متقدّمة. من شروط ذلك الاستثمار المالي وتوظيف الأدمغة والكفاءات العالية في مؤسسات الانتاج المعرفي لتعزيز قدراتها على التجهيز والاعداد والتواصل والانتاج. من نتائج ذلك ارتفاع نسبة المتعلّمين في المجتمع إلى ما يتجاوز السبعين في المئة وارتفاع نسبة القادرين على استخدام وسائل الاتّصالات الحديثة وتكنولوجيا المعلومات الى ما يتجاوز الخمسين في المئة. من نتائج ذلك أيضاً ازدياد عدد الاصدارات (كتب، بحوث، مجلاّت، صحف...) وعدد مواقع الانترنيت والفضائيات. 
الاقتصاد الريعي الإستهلاكي لا ينتج المعرفة بل يكتفي بنقلها أو شرائها ولا يستثمر فيها كحقل منتج بل يشجّع على الانفاق لاستيرادها واستهلاكها. هذا ما يعمّق التبعيّة الثقافية ويسيء تالياً إلى مستقبل الهويّة الحضارية ويجعل المجتمع العربي يعاني نزفاً بشرياً دائماً يعرف بهجرة الأدمغة والكفاءات العلمية والتكنولوجية العالية. هذا ما أدّى ويؤدّي إلى اتّساع الفجوة بينه والمجتمعات المتقدّمة وإلى استنزاف موارده وضعف استثماراته وتعميق تبعيّته وارتهانه المعرفي للمركزية الغربية، في حين أنّ  مجتمع المعلومات مجتمع جاذب للأدمغة لا طارد لها.

الأدمغة هي العنصر الجاذب للمعلومات إلى مجتمع المعرفة وهي العنصر الأهمّ في عناصر الانتاج والتنمية الانسانية التي هي شكل من أشكال تنمية الهويّة. الهويات تخضع لقانون النموّ المطّرد وهي دائماً تعاني نقصاً يحدوها على طلب التدرّج أو الارتقاء المعرفي. وحدهم أصحابها من أهل الكفاءات العالية يوفّرون لها ذلك. المجتمع العربي مجتمع طارد ونابذ لعقول أبنائه، وذلك لأسباب جمّة. أمّا رأسها فهو الاستبداد وغياب الحرية الفكرية والبحثية والمعلوماتية.

المجتمع العربي يعاني إشكالية العجز شبه التام عن الانتاج المعرفي.

في هذا المنعطف الدقيق من تاريخ العرب يواجه المجتمع العربي تحديات التحوّل الذي بدأت تتوضّح معالمه على الصعيدين العلمي والتكنولوجي. هذه المعالم ما زالت خجولة بالنظر الى ما يتمتّع به الوطن العربي من إمكانات اقتصادية وبشرية وحضارية بدّدتها سياسات أنظمة لم تؤمن يوماً بأنّ الانسان العربي هو قيمة في ذاته وأنّه صاحب حقوق وفي أساسها الحقّ في التفاعل مع نهضة العالم المتقدّم وثورته العلمية والتكنولوجية من موقع المنتج والمشارك لا المستهلك والمتلقّي.

فكرة الاستيراد هي محور السياسات العربية الرّسمية والاعتماد على الآخر هو القاعدة الثابتة في تلك السياسات ما أوقع المجتمع في أسر الارتهان لمصادر الانتاج المعرفي.

ملايين العرب يعيشون في "الأمّية الثقافية".

وملايين من منهم يعيشون في التبعية العلمية. وعليه،

إنّ المجتمع العربي الراهن يعيش على هامش الانتاج العلمي والتجدّد الحضاري.

ففي الرّبع الأخير من القرن الماضي لم يكن للعرب إسهامات علمية ذات شأن في الانتاج المعرفي العالمي. فكيف سيكون عليه الحال في الرّبع الأوّل من القرن الحالي والمجتمع العربي تتحكّم به سلطات رسمية (سياسية ودينية) تصرّ على عزله وترفض إدخاله في "الفضاء الثقافي" العالمي بحجّة الحفاظ على الهويّة؟

العقل المتسلّط في المجتمع العربي يرى إلى الهويّة بنية ساكنة وثابتة وعصيّة على الحراك الانقلابي والتحوّل الجذري.

ثمّة خلل في بنية هذا العقل الحاكم في تعامله مع العلم والتكنولوجيا ما أقعد المجتمع عن الانتاج المعرفي.

 

المجتمع العربي يعيش في إشكالية ناتجة عن علاقة الدين بمجتمع المعلومات (الدين من حيث هو محدّد رئيس، غيبي ومادّي، من محدّدات الهويّة) هل تسمح حاكميّة الفكر الديني بمجتمع معلوماتي مفتوح؟
هل تسمح بتفلّت الهويّة من قوانينها وأحكامها التقليدية؟

هل تتخلّى هذه الحاكمية عن دورها في ضبط "الشخصيّة الحضارية" أو الهوية التاريخية للأمّة؟

عقلنة الفكر الديني وأنسنته أساسان أوّلان لبناء مجتمع المعلومات وإلّا فرض هذا المجتمع نفسه على الدين ونازله وربّما أقصاه أو ربّما مكّنه من تشديد قبضته على الهويّة.

المجتمع العربي يعيش في إشكالية ناتجة عن علاقة "السلطة المستبدّة" بمجتمع المعلومات.
هل تسمح هذه السلطة بتوسيع هامش الحريات في الوطن العربي؟

هل تتخلّى عن "حقّها" في صناعة الانسان العربي وفق مقاييس تؤمّن لها الإستقرار والديمومة؟

الإقفال على الحرية إقفال على المعرفة والتنمية وتالياً على التجدّد الحضاري. السلطة السياسية تستسيغ النمط المعرفي المنسجم مع توجّهاتها وتدعمه وتنبذ وتحارب النمط المعرفي المعارض.

فكيف اذا كانت هذه السلطة التي تمارس الاكراه السياسي تحكم باسم الدين؟

إنّها تستظلّ الدين وتسخّره لمآربها باعتباره، في أذهان العامّة، النمط المعرفي الأوحد الذي ينبغي أن يسود وأن ينابذ سائر الأنماط المعرفية الوافدة من خارج حدوده. هنا نسأل:

هل المجتمع العربي قادر على أن يتحوّل إلى مجتمع معلومات، أي إلى مجتمع أنماط معرفية متعدّدة، بالاستقلال عن "سلطة الاستبداد"؟

غياب الديموقراطية يشكّل عائقاً أساسياً أمام تنمية الهويّة التنمية الثقافية التي يوجبها ويدفع بها قدماً مجتمع المعلومات فهو الذي يغني التنوّع الثقافي في هويّة الأمّة ويعزّز بعدها الانساني ويجعلها منفتحة على الأبعاد الانسانية في الثقافات الأخرى.

الألفية الثالثة هي ألفية المعلومات الآتية من كلّ مكان إلى مكان واحد ومن كلّ لحظة إلى لحظة كونية واحدة، أتسمح "سلطة الاستبداد" في المجتمع العربي بإدخال الهويّة في هذه الألفيّة وتنسيبها إلى وحدة المكان ووحدة اللحظة؟

هذا الشكل من أشكال التنسيب المعرفي الكوني يعني "المزامنة" أو المعاصرة ويعني "المماكنة" أو المساكنة.

أتسمح بذلك أم ستشدّد عليها الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ والمحاكم الاستثنائية وواحدية النمط في النظرة إلى الذات والآخر؟

"الهويّة المنقوصة" هي هويّة من يرى اكتمالاً في ذاته ونقصاً في سواه. هي هويّة من يعيش هلعاً تاريخياً من الآخر (فوبيا) ويجد فيه على الدوام مصدر مؤامرة عليه أو خطر.

مجتمع المعلومات، في ظلّ الديموقراطية، يقدّم فرصاً للهويات المنقوصة كي تمارس حقّها في المعرفة والمشاركة والانخراط في السياق الثقافي العالمي.  مجتمع المعلومات هو مجتمع مفتوح وكوسموبوليتي، الهويّة فيه تشكّل ثقافي حضاري مستمرّ ومتجدّد ومتحوّل.

أمّا في ظلّ الديكتاتورية العالمية أو "العولمة المتوحّشة" الساعية إلى الهيمنة عبر مجتمع المعلومات فتحدث ردّات فعل نابذة لها تساعد الهويّة على الممانعة وتحصين الذات والتأصّل في ثوابتها وانتماءاتها الأوّلية. الخصوصيّة الثقافية المعبّرة عن نفسها بردّات فعل نابذة للهيمنة تحمي الهويات.

"العولمة المتوحّشة" كما تقدّم نفسها اليوم صداماً بين الحضارات ونهاية للتاريخ ونزعة أمبراطورية للسيطرة على العالم باستخدامها، إلى جانب قوّتها العسكرية، "القنبلة المعلوماتية"  هي التي تشكّل خطراً على التنوّع الثقافي والهويات المحلّية المميّزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألّف منها الإنسانية.

إنّها تتوسّل مجتمع المعلومات للسيطرة والتهميش والاستتباع المعرفي والقيمي كذلك ولتسييد معارفها وقيمها وعقائدها على ما يسمّيه أسيادها "المجتمعات غير المندمجة" أو "البؤر العاصية."

أمّا "العولمة الإنسانية" الساعية إلى نشر المعرفة وإلى خلق ظروف التواصل والتفاعل بين الهويات الحضارية عبر مجتمع المعلومات فهي إغناء للهويّة. هنا ينحرف الأفهوم في اتّجاه أخلاقي ما سمح، تالياً، بالكلام على "أخلاقيات مجتمع المعلومات".

العالم كلّه، بموجب هذه "الأخلاقيات"، يتحوّل إلى ساحة تفاعل انساني تعزّزه تكنولوجيا المعلومات التي تلغي الحدود ولكنّها تغني الهويات.

الهويات الحضارية والثقافية لم تعد أسيرة الجغرافيا. لذلك إنّ الكلام على الجغرافيا الثقافية للهويات يتجاوز بكثير الكلام على الحدود بين الدول. إذا كانت الدولة تعرف بحدودها (الكيان الجغرافي) فإنّ الهويّة تعرف بمداها (الفضاء الثقافي) لم يعد التلازم قائماً بين الدولة والهويّة إلّا في موضوعة الأحوال الشخصيّة. السؤال عن الانتماء بات مرتبطاً بالفضاء الثقافي وليس بالكيان الجغرافي. وعليه،

إنّ الكلام على زوال دولة الحدود، بالمعنى الثقافي، هو صحيح وواقع في سياقه التاريخي.

عندما تتحوّل الهويات إلى فضاءات ثقافية متواصلة (والفضل في تواصلها يعود الى ثورة الاتصالات والمعلوماتية) يكون مجتمع المعلومات عامل إغناء للهويّة لا عامل إلغاء لها، ويكون، تالياً، عامل تحويل الفرد من مقيم في دولة (داخل كيان جغرافي) إلى مرتحل في فضاء (داخل كيان ثقافي).

إذا كانت الطائرة وسيلة إنتقال الانسان وتخطّي حدود الدول فإنّ ما جاءت به ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات هو وسيلة إنتقال من نوع آخر في مطلع القرن الواحد والعشرين.

وإذا كان الانسان ولا يزال يتنقّل جسدياً بالطائرة بين عواصم الدول فإنّه اليوم يتنقّل ثقافياً ومعرفياً بين مواقع الانترنت مستجلباً عواصم الثقافة والمعرفة إلى مكان إقامته.

أليس ذلك تبدّلاً نوعياً في العلاقة بين الهويات الحضارية؟

أليس هذا التبدّل النوعي من علامات التجدّد الحضاري؟