د. ساسين عساف يكتب:
حقيقة الصراع الراهن في لبنان
مئة عام مرّت على دولة لبنان الكبير بدت كافية لاقتراب أجله على يد من أتقنوا بامتياز تجارة الأوطان وتفنّنوا بقتل أبنائها.
أوهمونا بأنّنا شعب مفرد في هويّته.. فصدّقنا الكذبة الكبرى وأقمنا من أنفسنا محور الحركة الكونية.. أقام فينا الوهم منتفخاً فانتفخنا.. وحين كانت تدقّ ساعة الحقيقة كنّا نتوارى وراء خطوط وأحجام رسمها لنا الوصيّ الخارجي ولم تكن يوماً من صنع أيدينا.
شعب معطوب بتكوينه "المطايفي" (نسبة إلى المطايفة)، بعد مئة عام، لم يبلغ سنّ الرّشد "المواطني" (نسبة إلى المواطنة)..
هذا العطب التكويني استغلّه سياسيون أذكياء (السياسة فنّ يتقنه الأذكياء لحكم الأغبياء) لرسم خرائط الفرز الثقافي/الوجداني والسياسي/الجغرافي المسطّرة والملوّنة بشتّى أنواع المآسي كل عقد من السنين.. ربّما تكون المأساة هذه المرّة قد بلغت حدّها الأقصى فتظهّرت حقيقة المشهد الذي من فحص تفاصيله نتوقّع الآتي.
الشعب موزّع على سجون "المطايفات" البائسة، تولّى إدارتها، بأمر من أكثريّته، قيادات أحزاب وتيّارات وأتباع، لا يجمع بينها جامع سوى إرادة التحكّم "بشعوبها" واحتلال ما أمكن من مواقع السلطة ونهب خيورها بنهم أوليغارشي وقح لا يخشى حساباً أو محاكمة.
هؤلاء يعملون، كل وفق منهج خاص، في مساقات خطّة شاملة، عنوانها العريض: تفكّك فانهيار فتحلّل... ثمّ الفيدرالية؟
من يقرأ تفاصيل المشهد المتحرّك (من دون التلهّي بما يقوله صانعوه) إجتماعياً (لجهة الملبس والمأكل والمشرب والملهى والفولكلور والذوق العام) وثقافياً وتربوياً وقيمياً يجد أنّ الفيدرالية مطبّقة بشكل أو بآخر في هذه المنطقة بدون تلك، أو عكساً بعكس. وليس من باب المغالاة الكلام على فيدرالية اللسان والمصطلح (جماعتنا، شعبنا، مجتمعنا، ساحتنا، حقوقنا، خصوصياتنا، هويّتنا، تراثنا، رموزنا، كرامتنا، شرفنا، نادينا، كشّافنا، شبابنا، صبايانا... وكل ما له علاقة بهذه ال "نا" الدالّة على "المجتمعات" الكامنة في هذا المجتمع وعلى "الشعوب" المتوارية خلف هذا الشعب.. وليس من باب المغالاة الكلام على "الديبلوماسية المفدرلة" (فدرالية العلاقات بالخارج، والأصحّ هو القول فيدرالية الإرتهانات للخارج) المشتّتة والذاهبة على عماها في كلّ اتّجاه شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً..
طال الكلام على فيدرالية "الدولة العميقة" (فيدرالية المصالح والمجالس والصناديق والكارتيلات النفطية والغازية والمافيات الدوائية والغذائية واللصوصيات المصرفية والسرقات المالية والعقارية، البحرية والنهرية... وثمّة فيدراليات كثيرة من هذا القبيل!) فجاز لنا الكلام على فيدرالية "المجتمع العميق" لتظهير ما في عمقه من حقائق باتت تأخذ تعبيراتها السوسيولوجية والنفسية والسلوكية واللسانية بصورة طبيعية بحيث أنّه لم تعد "تعدّدية" مطلوبة في مجتمع متحضّر حرّ وإنساني متفاعل بل صارت "كثاريّة" تفكيكية وتجزيئية وتذريرية حتى ضمن العدد الواحد.
من تداعيات فيدرالية "المجتمع العميق" على الدولة العتيدة الحديثة ونظامها السياسي الديموقراطي وتركيب سلطتها المدنية، الخشية من عجز العقل السياسي المتنوّرعن الإبداع فينهزم أمام عقول "متطايفة" مهيمنة باتت تنشر مقولاتها وتنظّم ساحاتها وتجمّع قواها، وهي تنتمي إلى عوالم منفصلة، من جهة، وأمام عقول "متوافقة" على تعميق "الدولة العميقة" وتكريس فيدرالية النهب المتبادل، من جهة ثانية.
حقيقة الصراع الراهن هي بين تداعيات "المجتمع العميق" وتداعيات "الدولة العميقة" على مستقبل "الدولة اللبنانية" ومستقبل "المجتمع اللبناني": أيذهبان إلى الفدرلة التامة أم إلى تكريس المافيوية التوافقية؟
هذه الحقيقة تكشف أن العقول المتنوّرة باتت خارج حلبة الصراع. عصبيات وظلاميات ”المجتمع العميق" من جهة كما تحاصصات ولصوصيات "الدولة العميقة" من جهة أخرى تتباريان، ومن غير المؤكّد لمن ستكون الغلبة فالحسم في هذا الاتّجاه أو ذاك لا يقتصر على ديناميّة كلّ منهما فقط إنّما هو خاضع حكماً لعوامل خارجية طالما كان لها التأثير المرجّح في تحديد شكل الدولة ونظام الحكم وفي تحديد طبيعة العلاقات بين مكوّنات المجتمع، سلماً واحتراباً، ما سبّب هشاشة الدولة وضعف سيادتها وارتهان المكوّنات وتأجيج نزاعاتها فلا الدولة استحقّت هذه التسمية عن جدارة ذاتية ولا المكوّنات ارتقت لتنال شرف المواطنة..
هذان الوضعان يشيران بكلّ وضوح إلى تعذّر قيام الدولة الوطنية الوحدوية على حساب "الدولة العميقة" وتفكيك شبكاتها المافيوية، وإلى استحالة قيام مجتمع وطني عضوي على حساب "المجتمع العميق" وتذويب عصبياته وتبديد ظلاميّاته، لذلك تحت عنوان النظام الفيدرالي ثمّة قوى تعمل لاستمرار فيدرالية "الدولة العميقة"، وثمّة قوى تعمل لتكريس فيدرالية "المجتمع العميق".. وهذه القوى هي نفسها في الحالتين وفيهما تتبادل المواقع والأدوار. بحكم انتمائها إلى "الدولة العميقة" تستغلّ عصبيات وظلاميات "المجتمع العميق"، وبحكم ادّعائها الإنتماء إليه تستغلّ مفردات حقوق "جماعاته" ونزاعاتها البينية لتأمين مصالحها الخاصة..
هذه اللعبة الأوليغارشية المافيوية يتقنها سياسيو لبنان فيعيدون إنتاج النظام نفسه، وهو بدوره يعيدهم، والسلالات، إلى التحكّم بمفاصله والتمتّع بنهب خيراته..هذه اللعبة تبقي الدولة/الواجهة على هشاشتها وعجزها وانعدام فاعليّتها وتعزّز قوّة الدولة الفعلية.. وهي بالمقابل تقوّي "المجتمع العميق" وتضعف قوى التنوير الطافية على سطحه..
وراء هذا المشهد الواقعي تتوارى حقائق المآسي والكوارث والنكبات التي أصابت الشعب اللبناني العاجز فعلاً عن محاسبة المسؤولين المرئيّين في الدولة/الواجهة لأنّ حمايتهم يؤمّنها من يحكم الدولة الفعلية (سلطة المال المافيوزي) ومن له القدرة على تحريك التوتّرات الكامنة في أعماق المجتمع ووجداناته المتعدّدة (سلطة الإتّجار بالعصبيات الدينية)
إنّ مثل هذه الحمايات المدعّمة من هاتين السلطتين المتحالفتين موضوعياً تصعب إزالتها من داخل وهذا ما تثبته مآلات ما سمّي بثورة تشرين 2019 ثورة الشباب الوحدوي اللبناني عليهما معاً كما قدّمت نفسها في البدايات.. أمّا التدخّلات الخارجية، كما بيّنت التدخّلات السابقة، فلها مصلحة في حماية هذه الحمايات لا بل أكثر من ذلك ربّما يكون لها مصلحة هذه المرّة في تعزيزها للسهر على فدرلة الدولة والمجتمع وذلك في سياق تنفيذها لمشروع التفكيك والتجزئة والتفتيت المعدّ لغير دولة عربية، ولا يبدو أنّها تخلّت عنه يوماً فكيف لها أن تتخلّى عنه اليوم وهي التي فعلت ما فعلته في لبنان والعراق وليبيا وسوريا واليمن حيث بدت معالم الفدرلة واضحة في ما أعدّ أو يعدّ من دساتير وتقسيمات جغرافية/سكّانية..
القضايا الأساسية في لبنان يستحيل حسم الخلاف بشأنها في الشارع فشارع "المطايفات المتعدّدة " والمتحوّلة إلى "كثاريات متذرّرة" لا تسير في اتّجاه واحد أو حتّى في اتّجاهات متفاهم عليها... والقضايا الأساسية في لبنان، وهنا الطامة الكبرى، لا يحسم الخلاف بشأنها في المؤسسات الدستورية فالمسؤولون، وهم حقيقة ليسوا كذلك، شخصانيّتهم تعلو فوقه ولا تخضع لسيادة أحكامه. لهذين الأمرين تتعمّق شروخ المجتمع/المجتمعات وتتكثّف أزمات الحكم/الحاكمين وتتعثّر مسيرة الدولة/الدويلات بانتظار أن تأتي المعالجات من خارج الحدود.. ويبدو أنّها ستكون قاتلة هذه المرّة بعنوان مسمّم الفدرالية!!.