د. ساسين عساف يكتب:

فاعليّة وعي "الأنا " و "الآخر" في التجدّد الحضاري

الوعي الثقافي لهويّة الأنا وهويّة الآخر شرط معرفي للذات. وحوار الذات مع الذات يزيدها وعياً لذاتها وحوار الذات مع الآخر يزيدها وعياً له. إنّ وعي الذات للذات ووعي الذات للآخر هو المبدأ الأوّل لترسيم الحدود معه وتعيين الفروق والمؤتلفات الثقافية والحضارية. أمّا الإقفال على الذات بداعي التحصين والممانعة خشية الآخر لا لسبب إلاّ لأنّه الآخر فقتل للذات في مآويها الثقافية الضيّقة.

إنطلاقاً من هذه القاعدة: نعي مطويات الثقافات الأجنبية وانكشافاتها ونعي تالياً عدم الإنجرار أو الذهاب بعيداً في تمجيدها آتية إلينا، كما يظنّ البعض، بالإنقاذ من أنظمة الاستبداد وبالتنمية والديموقراطية وبالحريات وحقوق الانسان وتمكين المرأة.

ونعي كذلك  أهمّية عدم خيانة ذاكرتنا التاريخية وتراثنا وإرثنا الأخلاقي والروحي بأبعاده الحضارية والثقافية العريقة، فالذاكرة بما تكتنز من تراث وإرث قادرة على رفع الغطاءات المعرفية والفكرية التي توفّرها كتابات "هنتنغتون"، مثلاً، حول صدام الحضارات، والذاكرة قادرة أيضاً على مدّنا بوسائل الردّ الحضاري المناسب على تلك الكتابات وأضرابها من كتابات داعية إلى أمركة الثقافات العالمية.

هذه الكتابات التي صاغت استراتيجيات الهيمنة يردّ عليها بغير " الغضب المكبوت " أو " العنف المتفجّر " في الخطاب الثقافي/السياسي وبغير الانتقام المازوشي من الذات بسبب انكساراتها بل بوعي المكوّنات الثقافية والحضارية لحركة الإستعمار الجديد وبوعي الخصوصية الثقافية للذات التي يمكن أن تقيها خطر الإنسياق وراء استدعاءاته أو الإنسحاق أمام شراسة آلياته.

المواجهة بين الثقافات والحضارات فخّ نصبه للعالم منظّرو الإرهاب الفكري الأميركي الذين يحرّضون ثقافة على أخرى وحضارة على أخرى وصولاً الى هيمنة نمط ثقافي وحضاري واحد. وهذا ما يفرض فهماً تاريخياً للثقافة الأميركية المتأصّلة في فعل الإبادات الجماعية منذ الهنود الحمر حتى فيتنام مروراً بهيروشيما وناغازاكي.

بالمقابل، إنّ احترام الثقافات والحضارات العالمية الإنسانية والتواصل والحوار مع أهلها ومثقّفيها من شعوب العالم  ومثقّفيه كافّة يوفّر شروط التفاعل الإيجابي مع القيم اللاّعدوانية واللاّعدائية في تلك الثقافات والحضارات وتعميق الروابط مع الجماعات المنفتحة فيها على حوار قيمي إنساني مبدع، والتمسّك بوجود أخلاقيات عامة تختزن القيم والأفكار الانسانية الجامعة بين الشعوب ما يستدعي تالياً رفض "الثقافات والحضارات المتوحّشة" كنمط ثقافي إستعماري جديد ساحق للثقافات والحضارات الأخرى، وعدم اللجوء أبداً إلى الانطواء أو الانسحاب من ثقافة المواجهة الذي تفرضه سيكولوجيا الخوف على الذات من قوّة الآخر، بل على العكس من ذلك اقتحام دوائر العقل الحضاري (نقيض العقل المتوحّش)  بالحوار معه، فعقول الشعوب في الغرب ليست كلّها أميركيّة المنازع والأهداف. إنّها عقول أنتجت ثقافات غير عنصرية مارستها شعوب بالملايين تضامنت مع قضايانا.

وهي عقول تقرّ بالتنوّع وتحترم القيم والخصوصيات وتسعى إلى تعميق الوعي بالروابط المعنوية والحقوقية بين البشر، وإلى فهم مشترك للتحديات العالمية وإيجاد حلول مشتركة لمشاكل العالم متمسّكة بالأخلاقيات التي قامت عليها شرعة حقوق الانسان وميثاق الأمم المتّحدة وقواعد القانون الدولي وسائر المعاهدات والمواثيق الدولية.

هذا لا ينفي قطعاً أنّ مواقع الغرب الفكرية والإيديولوجية التابعة لمشروع الهيمنة الأميركية تصطنع سائر الحضارات عدوّاً لها.

مقاومة هذه المواقع العدائية العنصرية، ثقافياً وحضارياً، تتمّ باقتحام ما يناقضها وهذا ما قد يفتح قنوات التواصل والحوار بين الثقافات ذات المضامين الإنسانية والأخلاقية على غير أطروحة ومنهج يقودان إلى خلاصات فكرية وقيمية مشتركة.

ثمّة إمكان، بالرّغم من كلّ التشوّهات اللاّحقة بصورة الحضارة العربية، لوجود فضاء ثقافي مشترك تتحرّك فيه العقول وتتجادل بعلم وموضوعية ورغبة في إعادة تأسيس معرفي سليم بالآخر.

فالحضارة العربية إنسانية وآفاقها منفتحة على قيم عالمية مشتركة وليست تصادمية أو عنصرية بطبيعة تكوينها لجهة الأصول والروافد.

أهلها وبناتها هم أهل جدال وانفتاح في الحركة الذهنية والكلمة السواء. وهناك الكثير من تراكم جهالات ينبغي تبديده وهناك الكثير من عقد نفسية ينبغي التغلّب عليها بعيداً من أيّ افتعال وإشهاراً للهويّة العربية الحقيقية ( يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا.. )

هذه الدعوة للتعارف بين الشعوب تفضي حكماً، في حال تلبيتها، إلى الإكتمال المعرفي مع الآخر وبه.

عنوان هذا المقال يتضمّن السؤال الآتي: كيف للحضارة أن تنهض أو أن تتجدّد بالإكتمال المعرفي مع الآخر وبه؟

الجواب يأتي بشقّين:

المسار الحضاري العربي، على امتداد التاريخ العربي الطويل والمتواصل بعلومه وآدابه وفنونه وصناعاته وعمرانه، وفي ضوء علم الاجتماع المعرفي والمقاربات السوسيو/ثقافية، وفوق رقعة جغرافية امتدّت من جنوب فرنسا حتى تخوم الصين، اتّسع لثقافات وحضارات شعوب متعدّدة دينياً وقومياً ولغوياً، وتآلف معها فأغنته وكرّسته مرجعاً ثقافياً وحضارياً لأهل زمانه.
الثقافة العربية بخاصة والحضارة العربية بعامة لم تصبها يوماً عقدة التمركز على الذات والادّعاء باحتكار العلوم والمعارف، والمشروع الحضاري العربي يستمدّ قوّة استمراره من كونه يتوجّه صوب الآخر لا للهيمنة عليه بل للشراكة معه. الشراكة المعرفية هي نقطة الارتكاز للتجدّد الحضاري.
لهذين الأمرين لا بدّ من مراجعة خطاب التعبئة ضدّ الآخر والبحث عن آليات التواصل بحقوله المعرفية والتحوّل إليها والتماس مناهجها والاكتمال بها سبيلاً مضافاً إلى التجدّد الحضاري.

العقل العربي المجرّد من منازع العصبيات والنرجسيات كفيل باختيار المناهج المعاصرة لامتلاك المعرفة وليس له ما يسوّغ عدم الأخذ بها بحجّة أنّها من صنع الآخر. إنّ السير في منطق الإحجام عن المعارف الحديثة لمجرّد كونها إنتاجاً غربياً يعاكس الاتّجاه العام الذي سلكه العقل العربي على امتداد تاريخه.

والعقل العربي يوم احتجزته أصوليات أو سلفيات أو عصبيات أو  نرجسيات دينية وقومية احتجبت عنه المعارف فكانت عصور انحداره وانحطاطه.

المعارف هي قياس فاعلية العقل وإنجازه الحضاري. والنقص المعرفي في المجتمعات العربية يبقيها في التخلّف ودون هذا الانجاز بمسافات بعيدة.

إذا كان الآخر غير العدائي أو العدواني (على قاعدة التفريق بين "آخر حضاري" و"آخر متوحّش") هو مصدر المعارف الحديثة فلا مناص من السعي الى الإكتمال المعرفي معه وبه. " اطلبوا المعرفة ولو في الصين " هي القاعدة الفقهية والشرعية التي تحكم توجّهات العقل العربي في تعامله مع الآخر.

عملاً بهذه القاعدة، لم يصب النظام المعرفي عند العرب بأيّ انسداد بل ظلّ مفتوحاً على الثقافات والحضارات الوافدة إليه والذاهب إليها..    

 

 

الدكتور ساسين عساف/ كاتب لبناني وعميد سابق لكلية الآداب والعلوم الانسانية في الجامعة اللبنانية