د. ساسين عساف يكتب:
الحداثة والدين والهويّة والتجدّد الحضاري
منذ خير الدين التونسي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر مروراً بمفكّري النهضة في نهاياته وبدايات القرن العشرين وانتهاء بحركة الحداثة الفكرية والأدبية التي بلغت أقصى مداها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والكلام النظري، مصحوباً ببعض الإجراءات، لم يتوقّف على "تحديث الهويّة العربية" في المجالات كافة. فالحداثة، إذاً، ليست شأناً دخيلاً على الحياة العربية المعاصرة بمختلف جوانبها. والحداثة هنا نعني بها العقلانية والنقدية والمعرفية والوضعية والعلمانية والعلمية والفردانية.
إن كان ثمّة من يرى في هذه المناهج خطراً على الدين فالدين وفق اجتهادات كثيرة ينطوي عليها ويدعو إلى تطبيقها وتاريخه عرف العديد من تجاربها.
والحداثة من حيث هي علم وتكنولوجيا ومناهج تفكير وأساليب عمل لا تتنافى والدين إلاّ في استخدام النتائج أي في توظيفها لخدمة هدف.
والحداثة ليست ديناً أو إيديولوجيا إنّما هي مجموعة مناهج تفكير وأساليب عمل أدّت إلى مجموعة انجازات. والموقف الديني منها يكون موقفاً من منجزاتها.
فهل الدين يرفض منجزات الحداثة؟ هل الحداثة من حيث هي حرية رأي واعتقاد يرفضها الدين؟ هل ثمّة نصّ إلهي يحرّم الجديد ويدعو الى الجمود في القديم؟ هل الحداثة من حيث هي علم يرفضها الدين؟ هل ثمّة نصّ يتناقض مع العلم الحديث ويعارضه؟ هل الحداثة من حيث هي اكتشاف للحقائق يرفضها الدين؟ هل الحداثة من حيث هي تنمية وتطوّر في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بين الناس يرفضها الدين؟ هل الحداثة الساعية إلى رفاه الناس تقف والدين على طرفي نقيض؟
إذا كان الجواب هو أنّ الدين يرفض الحداثة بتلك المضامين فهذا ما يجعل الدين قوّة استعباد وإكراه للعقل والتفكير الحرّ. عندما يتحوّل الدين إلى قوّة استعباد وإكراه يضعف تأثيره في مجرى التاريخ الثقافي والحضاري.
إنّ أولويّة الدين ليست رفض الحداثة بل توجيه الناس إلى كيفية الإفادة منها لما فيه نفعهم في حياتهم العامة والخاصة. هكذا يحتفظ الدين بدوره في تاريخ الثقافات والحضارات فلا يصبح خارجه أو عدوّه.
عرفت الحداثة العربية تطوير الثوابت بالإجتهاد على الأصل وإعادة تكوين الفقه الديني، وتنمية خصوصياته الثقافية والحضارية من خلال الاتصال بتاريخه ونظرتها الايجابية إليه فارتسمت نقاط التلاقي والتقاطع من داخل البنية ولم تفرض عليه من خارج وهذا شرط ضرورة من شروط التجدّد الحضاري.
الحداثة العربية أعادت تكوين الوعي القومي/ وعي الهويّة. مسألة الهويّة هي من أهمّ المسائل الفكرية المطروحة اليوم على الوعي القومي لدى شعوب العالم النامي. من نحن؟ هو السؤال الإجرائي في سياق تطوّرات دولية تقود العالم إلى الإندماج القسري وفق نمط ثقافي وحضاري واحد. وفي الحالين يبقى سؤال الهويّة مطروحاً ومشروعاً في مرحلة عنوان الصراع فيها "صدام الهويّات".
في السياق التاريخي للحضارة العربية تكمن المنطلقات الممكنة لوعي ذاتي يرمي إلى إعادة تكوين الوعي القومي بمناهج علوم الاجتماع السياسي وعلم الإقتصاد السياسي وعلم النفس التكويني للجماعات لا الديني أو الأخلاقي فقط.
إنّ حصر الوعي القومي بالبعد الديني يسقط حقيقة التراكم الحضاري ودوره في تشكيل الهويّة. فهويّة العرب القومية ليست أحادية البعد بل هي تشكّلت من تراكمات حضارية داخل مداها الجغرافي (حضارات بلاد ما بين النهرين، حضارات بلاد الشام، حضارات بلاد النيل) وعلى حدوده كحضارات الصين والهند وفارس والإغريق وأوروبا القديمة والحديثة.
إنّ التصوّر التقليدي لهويّة العرب القومية يخلع عليها هالة من جهاد مقدّس. انّ المكوّن الجهادي للهويّة يستأخر النظرة العربية الحديثة المطلوبة إلى الذات الحضارية فحروب الهويات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية لا يحسمها المكوّن الطوباوي لصالح الهويّة التي تتّخذ منه سلاحها الأوحد. ثمّة تغيّر كبير طارئ على مفهوم الهويّة أوجدته العلوم الحديثة ما يفرض على العرب نظرة حديثة الى ذاتهم القومية. هذه واحدة من الأولويات الفكرية المطروحة على الوعي القومي العربي في الزمن المعاصر.
الحداثة العربية أدّت واجبها في استدخال الهوية إلى النسبية التاريخية. فالهويات ليست حقائق مطلقة تولد فيها الجماعات بأوصافها التامّة. الهوية، خصوصاً الثقافية والحضارية، هي فعل تكوّن تاريخي وهي تختلف عن الهوية الإتنية أو العرقية أو هي ليست كلّها. الهويات الإتنية هي من الحقائق الثابتة والجوهرية التي تميّز هذه الجماعة عن سواها. أمّا بالمعنى الثقافي أو الحضاري فهي من الحقائق النسبية والمتحوّلة والعارضة التي تسود في بيئة معيّنة وزمن معيّن دون سائر البيئات والأزمنة.
كم هو عدد الهويات الإتنية والهويات الدينية التي تعيش في كنف الحضارة العربية السائدة اليوم؟ في سياق الحركة التاريخية التي تتحكّم بها الشروط المادية يضعف المكوّن المعنوي للهويات، فالعرب ليسوا نصّاً دينياً إنّما هم بشر في سياق تاريخي.
الهويّة الحضارية العربية هي حاصل حضور العرب المادي في التاريخ تقدّماً وتراجعاً أخذاً وعطاء.
والهويّة العربية هي حركة مادية في التاريخ.
المواريث الحضارية السابقة على النصّ الديني موجودة في أصولها التكوينية.
كم من حضارات شعوب وثقافات شعوب هي مكوّن أصيل في الحضارة العربية والثقافة العربية؟
العرب بعد الاسلام تفاعلوا مع تلك المواريث فوق أرض واسعة على امتداد قرون فكان تعدّد الهويات الدينية والعرقية عامل إغناء لهويتهم الحضارية، وعليه، انّ الهويّة الحضارية هي تشكّل تاريخي محدث محكوم بالتحوّل ومشروط بالنسبية بصورة دائمة.