د. ساسين عساف يكتب:
فاعليّة اللغة في التجدّد الحضاري
اللغة مكوّن رئيس من مكوّنات الهويّة الثقافية والحضارية. إنّها عنصر من العناصر الفارقة بين الهويات. إنّها التعبير الأوفى عن خصوصياتها الذاتية، وهي تجسّد "روح الأمّة"، عقلها ووجدانها ونماذجها العليا وتصوّراتها النمطيّة، وتحفظ إرثها وتراثها وتحمي هويتها التاريخية.
اللغة في الوعي الثقافي القومي الأتمّ هي الهويّة كونها أنظمة معارف وقيم وأنماط سلوك. تؤيّد هذا المفهوم علوم حديثة، منها: علم ما وراء اللغة أو فلسفة اللغة وعلم الإجتماع اللغوي وعلم النفس اللغوي وأنتروبولوجيا اللغة.
مسألة الهويّة، ببعديها الثقافي والحضاري، هي مسألة لغوية في المقام الأوّل.
منذ خمسينيات القرن الماضي تنبّأ آنشتين باختراع ما أسماه "القنبلة المعلوماتية" فصحّت نبوءته وبدأت الألفية الثالثة على إيقاع حرب من نوع جديد هي حرب المعلوماتية عبر اللغة حتى بات السؤال المطروح من أنا أو من نحن سؤالاً طبيعياً يتردّد على ألسنة من يعيش في إشكالية الثنائيات اللغوية أو ثلاثياتها أو رباعياتها أحياناً.
يبدو أنّ اللغة العربية، في عصر التواصل وتكنولوجيا المعلومات، باتت المكوّن الأضعف بين مكوّنات الهويّة فهيمنت اللغات الأجنبية على المجتمع العربي ما يحدو على السؤال: ما مصير اللغة العربية في المجال المعلوماتي؟
الإنكماش المعرفي باللغة الأمّ يؤدّي حكماً إلى انكماش الهويّة (تقلّص أبعادها المعرفية والثقافية) وإلى تعذّر اللحاق بالرّكب التكنولوجي بمختلف مجالاته. وهذا ما يحوّل العرب الى هويّة معرفية وثقافية تابعة (التبعية في حدّها الأدنى) وفي هذا خطر كبير على نظامهم التربوي والتعليمي الذي قد يفرض عليهم، في آخر المطاف، التعلّم والتعليم باللغات الأجنبية، وهذا من شرّ الأذيّات التي قد تلحق بالهويّة.
أن تصبح اللغة العربية في عداد اللغات الميتة (علمياً ومعرفياً وتكنولوجياً) فهذا يعني أنّ الهويّة العربية (بالمعنى الثقافي والحضاري المهيمن) أصبحت هويّة متحفية (هويّة تراث لا مستقبل).
تشويه الهويّة وتبخيسها في زمن "الإنسان المتّصل" هو ناتج موضوعي لتفوّق اللغات الأجنبية على اللغة القومية في تكنولوجيا المعلومات.
"الهوية الضامرة" ثقافياً هي المعادل الموضوعي لقصور اللغة في الحقل المعلوماتي، فاللغة هي من أبرز وأهمّ مقوّمات تكنولوجيا المعلومات وإنتاج الثقافة.
الوافد الثقافي عبر الشبكات العالمية بقصد الهيمنة يأتي ليكتسح الهويّة. الهدف من الهيمنة الثقافية، عدا الانتفاع الاقتصادي، هو "تصنيف الشعوب" لغوياً وتحديد انتماءاتها الثقافية والحضارية. ثمّة لغات في عصر المعلومات مهدّدة بأن تصبح معدومة الصلاحية ومنها اللغة العربية، وذلك لعدم استخدامها في تكنولوجيا المعلومات.
انعدام صلاحية اللغة في المجال المعلوماتي يؤذي الهويّة لأنّ اللغة المستعارة تجلب معها هويّتها. المسألة ليست تقنية فحسب بل هي تمسّ جوهر التفكير ومنهجياته.
إنّ شعباً ينطق بلغة ويتعلّم من الآخر ويتواصل معه بلغة أخرى هو شعب معرّض لفقدان هويّته الثقافية وللهيمنات كافّة.
من مآزق الهويات في عصر المعلومات وقوعها في "الإزدواج اللغوي" خصوصاً متى كانت الواحدة من هاتين اللغتين (اللغة الأم) للإستخدام العادي وكانت الأخرى (اللغة الأجنبية) للتعلّم والتواصل والإنتاج، أي للإستخدام الثقافي.
إنفصام الهويات هو الداء المستقبلي الذي ستصاب به شعوب العالم اذا تمكّنت آليّات تكنولوجيا التواصل من اجتياحه.
الإستخدام المعلوماتي له طرفان: المرسل والمرسل اليه. هل الطرف الثاني قادر على التعامل الندّي مع الطرف الأوّل؟
المعلومة الوافدة عبر شبكات التواصل باللغات الأجنبية هي واحدة من آليات السيطرة الثقافية، وظيفتها هي التجريد والإحلال، تجريد المرسل إليه من لغته وإحلال لغة المرسل فيه.
السيطرة على شبكات الاتصال والصناعة المعلوماتية (السيطرة عبر الفضاء) هي الحاسم الفاعل في حرب الهويات اللغوية بين من له القدرة على الإرسال ومن ليس له سوى حتميّة التلقّي.
ما هو تأثير اللغات الأجنبية المستخدمة في صناعة المعلومات وتصديرها في تشكيل هوية المتعلّم وإخراجه من اللغة الأمّ؟
آلة التغريب والغزو والإختراق والإستتباع الثقافي تقضم مؤسسات التربية والتعليم والإعلام والإعلان وسائر مؤسسات الإنتاج أو الإستيراد المعرفي والعلمي والتكنولوجي. والسؤال المطروح يكمن في مدى تأثير هذه الآلة المسنّنة باللغة في تشكيل هوية المتعلّم الثقافية. من مآزق الهويات والتباساتها في الزمن الراهن وقوع أبنائها بين أسنان هذه الآلة. فاللغة المسيطرة على شبكات الاتصال الإلكتروني والصناعة المعلوماتية والإلكترونية تغلّب ثقافة من له القدرة على الإنتاج والتصدير على ثقافة من ليس له سوى الاستهلاك والتلقّي. وثمّة قانون تاريخي تشهد بصحّته الوقائع يقول: إنّ الأمم تؤخذ من عقول أبنائها قبل أن تؤخذ بسلاح أعدائها. والسلاح الأمضى في السيطرة على العقول هو اللغة. (حركة الاستشراق والإرساليات مهّدت لحركة الاستعمار)
اللغة وسيلة معرفية في خدمة السيطرة. المؤرّخ بول كينيدي يقول:"التاريخ يخلق رابحين وخاسرين. المعرفة هي المعيار، هي الفيصل بين الرابحين والخاسرين المعرفة تعيد صياغة الهويّة.."
فردريك جيمسون، أوّل من نظر الى الرابط بين الثقافة (العلم) والسياسة (السيطرة) يطرح ما يلي:
* هل نحن نسير نحو ثقافة كونية واحدة تكون فيها الهيمنة للفنون البصرية (الإعلام والإعلان ) وللّغة الانكليزية؟
* هل الشكل الجديد للصراع المعرفي هو بين من يمتلك المعرفة ويسيطر بالقوّة اللغوية وبين من لا يمتلكها؟
صناعة العقول والأمزجة والأهواء والأذواق والسيطرة عليها مهنة ينجح في ممارستها من يمتلك قوّة المعرفة مصحوبة بقوّة السيطرة الخفية أي تكنولوجيا التواصل باللغة المباشرة والدقيقة والواضحة والبسيطة والسريعة في مستوى الإيصال والإفهام. يقول فريدمان، أحد منظّري العولمة، "في الماضي كان الكبير يأكل الصغير أمّا اليوم فالسريع يأكل البطيء." اللغة تظهّر السرعة.. ومتعلّمو اليوم يلجأون بالضرورة إلى اللغة التي توصلهم الى مادّة تعلّمهم بالسرعة القصوى.
إنّ العاملين لحساب آلة التغريب والغزو والإختراق والإستتباع الثقافي والمشدوهين أمام نجاحاتها في "تحضير الشعوب وتنميتها وتحديثها وعصرنتها وعولمتها" عبر اللغة أصبحت اللغة العربية عندهم لغة شائخة رمز التخلّف والبطء والعجز، وأمست اللغات الأجنبية لديهم بطاقة انتساب سريع إلى النموذج الثقافي أو الحضاري الغربي. والحجّة في ذلك تحرير الذات بتحطيم قيدها اللغوي وإخراجها من دائرة الإنغلاق الحضاري تجديداً لها ووصلاً بالحداثة والمعاصرة وإنجازات العولمة التي لا تنتظر المتخلّفين عن اللحاق بها حتى بات يقيناً عند الكثيرين، خصوصاً من العاملين في مؤسسات التربية والتعليم في مختلف مراحله، أنّ امتلاك اللغة الأجنبية وسيلة تكوين معرفي وعلمي وتكنولوجي هو بطاقة صعود السلّم الكهربائي السحري الموصل إلى " العالمية".. إنّها إشكالية التوق إلى "عالمية بدون جذور".
هويّة المتعلّم ليست قميصاً يبدّل عند الاقتضاء. وليس من اليسر في شيء الدخول السهل في "الهويات المصطنعة". هنا تكمن مسؤولية المؤسسات المعنية.
مسؤولية المؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية في حماية هويّة المتعلّم باللغة الأم..
الحدود بين الخصوصية والعمومية في المجالات العلمية والمعرفية والتكنولوجية حدود متداخلة بفضل المنجز المعلوماتي الهائل الذي جعل الكلّ مترابطاً مع الكلّ. هنا تجد المؤسسات المعنية بالتربية والتعليم ونقل المعلومة أمام تحدّ عنوانه معرفة ترسيم الحدود بشكل يسمح لها بالقيام بدور توليفي بين الذات والآخر تفادياً للتبعية والتهميش من جهة وللتخلّف من جهة أخرى فلا تنزلق في خدمة برامج السيطرة الأجنبية ولا تنقاد بضغط الخوف من ثقافة الآخر إلى ممانعة مجّانية ترتدّ على الذات قطعاً معرفياً يؤدّي بها إلى الموت البطيء في مآويها الثقافية. اللغة الأم واحد من هذه المآوي التي يمرّ العالم اليوم في مرحلة تفكيكها والخروج منها إلى رحاب العالمية.
المنهج التوليفي مسألة صعبة ومعقّدة خصوصاً في مجال التربية والتعليم.. لذلك نقترح على المؤسسات المعنية إعتماد اللغة العربية في التعليم في أنواعه ومراحله كافة خصوصاً في العلوم الإنسانية والاجتماعية والتربوية حيث لا تقوم اللغة بوظيفة إيصالية فقط بل بوظيفة تكوينية، فالألسنيون وعلماء اللغة يجمعون أنّ اللغة هي بنية معرفية ونظام تفكير ونمط سلوك وتعبير ومحفّز رغبات وتوجيه والتصاق حميمي بتراثها وأهلها.. بهذا المعنى هي وسيلة استتباع ثقافي وانحراف أو تبديل أو تعديل بالهوية الأصلية وتغريب عنها وانزياح عن الذات للتماهي بالآخر أو تلبّس أحواله والتمثّل به والتنميط عليه.
المنهج التوليفي يسهل اعتماده إذا أدرك القيّمون على المؤسسة التربوية والتعليمية أنّ الإرتباط باللغة العربية هو ارتباط كينوني/عضوي.. هو ارتباط هوية.. وأنّ الإرتباط باللغات الأجنبية، على أهمّيته وضرورة استمراره لكي لا يقع المتعلّم في "الأمّية الثقافية" أو القطع المعرفي، هو ارتباط وظائفي لإغناء الهوية. لذلك إنّ مسؤولية المؤسسة التعليمية تكون باعتماد اللغة العربية لغة تعليم واللغات الأجنبية لغات تعلّم وتثقّف واكتناز معرفي.. ولكي يتّهيّأ للمتعلّم استخدام الأجنبية لغة تعلّم ينبغي إيلاؤها الإهتمام الكافي في مناهج التعليم والأنشطة المرافقة..
باختصار نقول: اذا كان القصد من التربية حماية الهوية وتنميتها فالمقترح لبلوغه هو اعتماد العربية لغة تأصيل وتكوين واعتماد الأجنبية لغة إغناء وتمكين.
اللغة الأم وحماية هوية المتعلّم عبر التأصيل والتكوين:
المفكّر الجزائري عبد الحميد بن باديس ربط بين اللغة العربية والهوية القومية. يقول: " إنّ اللغة العربية.. لغة القومية.. وحدها الرابطة بيننا وبين ماضينا وهي وحدها المقياس الذي نقيس به أرواحنا بأرواح أسلافنا..." في هذا الكلام تأكيد الفعل التأصيلي للّغة.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رفضت طلب أردوغان افتتاح مدارس تركية في ألمانيا قائلة: "لا للمدارس التركية في ألمانيا.." وحجتها في ذلك أن وجود هذه المدارس يعيق اندماج الجالية التركية ويخلق مجتمعاً موازياً للمجتمع الألماني.. وأردفت: من يعش في ألمانيا عليه أن يتعلم بالألمانية..." في هذا الكلام تأكيد الفعل التكويني للّغة.
منذ منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي أنشئت المدارس الأجنبية في عدد من أقطار الوطن العربي، في المشرق كما في المغرب، كل منها تعلّم بلغتها وتنشر ثقافتها.
بصرف النظر عن مستوى التعليم الجيّد الذي قدّمته تلك المدارس فالسؤال المطروح في سياق ما نحن بصدده هو: ما مدى تأثير هذا التعليم في تفكيك الهوية الثقافية لأبناء تلك الأقطار وإدخالهم في هويات غريبة بفصلهم عن أصولهم المعرفية والقيمية والسلوكية؟ ( تجربة الجزائر ولبنان من أغنى التجارب الدالّة على التفكيك والتغريب متى غيّبت اللغة الأم وانعدمت قدرتها على التكوين والتأصيل)
تغييب اللغة العربية أسهم بخلق مجتمعات متعدّدة التركيب المعرفي والسلوكي والقيمي فاقدة لارتباطها بهويتها القومية. انتهى بعض أفرادها إلى ما أسمّيه "العمالة الحضارية " الصريحة للغرب، ومنهم من خضع طوعاً لما أسمّيه "إستعمار الضرورة" ومنهم، ولو مخلصاً، من عاش في "فصام ثقافي" حال دونه والقدرة على حسم الاتجاه في مستوى الهوية والانتماء.
وتبقى الإجابة عن سؤال رئيس: هل اللغة العربية بما هي عليه الآن قادرة على حماية الهوية الحضارية وتجدّدها؟
نستلّ الإجابة من العلاّمة اللغوي الشيخ عبدالله العلايلي: "علّة النهضة في اللغة العربية ليست منها وفيها بل هي علّة من العرب وفيهم.. العرب هم الذين يمتلكونها والعكس لا يستقيم.. ومالك الشيء مسؤول عن سقمه.. واللغة العربية تالياً ليست مسؤولة عن تخلّفنا."
إنّ محنة اللغة العربية هي من محنة العقل العربي وعجزها من عجزه، فيوم كان هذا العقل مصدر الإبداعات في العلوم كافة كانت العربية لغة الشعوب القريبة والبعيدة، كانت لغة العصر يوم كان العرب أسياده..
اللغات وعاء ما تنتجه العقول والألباب وحافظه وناقله وحاميه. بهذا المعنى تحمي اللغة الأم هوية المتعلّم عبر التأصيل والتكوين.
اللغة الأجنبية وتنمية هوية المتعلّم عبر الإغناء والتمكين:
اللغة الأجنبية هي الأداة الأفعل للتواصل مع الآخر بما هو ضرورة للذات في صيرورة ما أسمّيه "تمكين الذات عبر الاكتمال المعرفي بالآخر."
لهذا إنّ مؤسسات التربية والتعليم مدعوّة إلى إعداد المتعلّم وتدريبه على الأخذ بالوافد المعرفي بلغته الأصلية وذلك عبر تعليمه هذه اللغة بأرقى مستويات التعليم. هنا يتّضح الفرق بين لغة أجنبية يتمّ تعليمها (اللغة مادة تعليمية بهدف تمكيني) ليغتني المتعلّم بها ويتمكّن من استجلاب معارفها وبين لغة أجنبية يتمّ التعليم بها (اللغة وسيلة تعليمية بهدف تكويني)
اللغة الأجنبية بوصفها مادّة تعليمية تسهم في تنمية الهوية أو انبساطها.
اللغة الأجنبية بوصفها وسيلة تعليمية تسهم في ضمور الهوية أو اعتلالها.
إنّ " لغة الإغتيار الثقافي " إذا سادت، كما هي سائدة اليوم في بعض جوانب حياتنا العامة، أدخلتنا في ما أسميناه في كلام سابق "التباسات الهويّة أو في ما أسمّيه هنا "الهويات المائعة" أو "المعتلّة."
في مرحلة استهداف الهويات والذاتيات القومية، الشعوب الجادّة لا تستسيغ الفيض في الاختلاف الثقافي أو "الترف اللغوي" الذي يتّخذ من أزعومة التعدّد الحضاري وحرية التعليم حجّة وجود وشرعيّة بقاء.
المستساغ، والحالة هذه، هو استخدام اللغة الأجنبية جواز عبورلى الآخر وإدراكه والحوار معه وفهمه والتعلّم منه وتوظيفه في تنمية الذات وتمكينها من الاستواء على خطّ التقدّم المعرفي والعلمي والتكنولوجي وخطّ التواصل الانساني الرّحب وإبداعاته الفكرية والأدبية والفنّية.
بهذا الأفق المفتوح على الآخر نرى إلى اللغة الأجنبية وسيلة إغناء وتمكين. (هنا اللغة الأجنبية ليست محصورة بالفرنسية أو الإنكليزية كما هي الحال في معظم برامج التعليم في الدول العربية بل تتعداهما إلى لغات الشعوب المنتجة في شتّى الحقول المعرفية والعلمية والتكنولوجية، شرقاً وغرباً..)