د. صلاح الصافي يكتب لـ(اليوم الثامن):

التوافقية واللاتوافقية والثلث المعطل

إن ثورة تشرين الأول (أكتوبر) في 2019 هي التي غيرت الموازين في العملية السياسية العراقية، والتي دعت الى عودة العراق لأبنائه والتمسك بهوية العراق العربية المدنية والعلمانية. ثورة تشرين العابرة للأجيال والمذاهب والمناطق كانت صرخة مدوية لرفض شعبي واسع لتجربة القوى السياسية الإسلامية المتحكمة في السلطة، نعم ثورة غيّرت الموازين وفاجأت الجميع بمدها البشري ومستوى الثوار المهني والثقافي والعمالي والطالبي والنسائي، خصوصاً أنها استطاعت التوغل في معاقل الأحزاب الإسلامية الشيعية الحاكمة منذ أكثر من ثمانية عشر سنة، حيث أتت النتائج لتجعل من السيد مقتدى الصدر أن يكون الشخصية الشيعية البارزة التي تتبنى مطالب المتظاهرين الذين يرفعون شعارات العراق للعراقيين وأعطوني وطناً...

مضى أكثر من سبعة أشهر على إجراء الانتخابات النيابية في العراق ولا تزال تداعياتها تتفاعل ونتائجها تتنازع ما يحول دون انتخاب رئيس للجمهورية وآخر الحكومة.

 

والسبب في ذلك النسبة الموصوفة المحددة في الدستور العراقي لانتخاب رئيس الجمهورية، وبما أن الائتلاف الثلاثي لم يستطع الوصول لهذه النسبة، فأصبح لدينا هناك ثلث معطل للجلسات يمثله الاطار التنسيقي.

إن الثلث المعطل هو الضامن الذي وضعه السنة والأكراد في الدستور لضمان مواقفهم، أما مفهومه اليوم قد اختلف وإن تسمية الثلث المعطّل بـ"الثلث الضامن"، يراد منها ضمان حقّ المكوّن الشيعي باعتباره الكتلة النيابية الأكثر عدداً والتي تسمّي رئيس مجلس الوزراء، وهنا نكون أمام تلاعب بالمفاهيم السياسية والمتاجرة بحقّ أبناء المكوّن الشيعي، فكيف تكون الأغلبية المكوناتية تبحث عن التعطيل؟ لأنّه يفترض أنَّ الأقلية هي مَن تبحث عن الضمانات وليس الأغلبية؟.

لم تتضمن أدبيات الفقه الدستوري تعريفا لمفهوم الثلث المعطل، ويُمكن وصفه بانه ثُلُث المعارضة البرلمانية المُعطل لتحقق نصاب انعقاد البرلمان في جلسةٍ يتطلب لانعقادها حضور الثُلثين، وعن مدى انسجام مشروع القوى السياسي في تحقيق الثلث المعطل فإن الثلث المعطل سوف يبقى ملازماً للبرلمان؛ حيث إنه من مجموع النواب هناك نحو (78) نائباً يمثلون الإطار التنسيقي، وهو ما يعني أن المتبقي من عدد النواب لن يزيد على 250 نائباً، وفي حال غاب 29 نائباً من الكتل الأخرى والمستقلين فلن يكون هناك نصاب الثلثين داخل البرلمان، ولن يحصل التصويت، مما يوجب على التحالف الثلاثي كسب نواب من كتل سياسية ونواب مستقلين حتى يستطيع توفير اغلبية الثلثين لانعقاد جلسات مجلس النواب التي يتطلب انعقادها اغلبية الثلثين.

منذ العام 2003 في العراق وقبل ذلك بكثير في لبنان تعرضت المجتمعات السياسية العراقية واللبنانية إلى صيغة التوافق السياسي أو ما يعرف بالمحاصصة في الحكم، حيث تتوزع السلطة وتتقاسم بين المذاهب والطوائف والمناطق، على حساب السلطة المركزية القوية، وأثبتت التجربة  أنها صيغة غير عملية ولا سليمة وتستخدم غطاءً للفساد والمفسدين وتشجع قيام ميليشيات وهيئات وتنظيمات غير حكومية بديلة أو موازية للدولة تنافسها على الدور وتعرقل عملها، ودليل ذلك الوضع المأساوي في كلا البلدين.

 

استنتاجا لما تقدم، إن مشروع الثلث المعطل الذي يطرحه في هذه الفترة قوى واقطاب الاطار التنسيقي جاء في قبال مشروع الأغلبية الوطنية التي يريد تطبيقه التيار الصدري، القوى السياسية التي تريد تحقيق الثلث المعطل كنسخة مستوردة بحدود معينة من التجربة السياسية في لبنان لكن اللافت أن القوى السياسية التي تضغط بمشروع الثلث المعطل على مستوى جلسات انعقاد مجلس النواب، في حين أن الثلث المعطل في التجربة السياسية اللبنانية يشمل عمل السلطة التنفيذية إضافةً الى تعطيل عمل مجلس النواب عبر تعطيل تمرير المشاريع الواجب توفر أغلبية الثلثين من أعضاء مجلس النواب.

إذن أصبحت وظيفة الثلث المعطّل هو ضمان الإبقاء على التوافقية السياسية (محاصصة سياسية) والتي تُعَد فرصة لِضمان البقاء ضمن دائرة السلطة والنفوذ، وتوفر حصانة من استئثار خصوهم السياسيين بالمناصب ومغانم الحكم.

كان الأمل كبيراً بمغادرة التوافقية، لكن وجدنا أنفسنا باللا توافقية مصحوبة بثلث معطل لا يرحم، سوف يبقي الحال المتردي على ما هو عليه، وسيبقي حكومة (المبخوت) حكومة تصريف الأعمال مستمرة خلافاً للدستور، تتصرف وكأنها حكومة قانونية، والمتضرر الوحيد هو شعب مسكين تتلاطمه الأمواج، وإنا لله وإنا إليه راجعون.