عبدالله السناوي يكتب:

المسيحيون العرب.. نكون أو لا نكون!

يستدعى استشهاد الصحفية الفلسطينية «شيرين أبو عاقلة» برصاص الاحتلال الإسرائيلى إرثا سياسيا للمسيحيين العرب يذخر بالمواقف والتضحيات دفاعا عن القضية الفلسطينية والاستشهاد فى ميادينها.
كان المطران «هيلاريون كابوتشى» رمزا لامعا لجيل النكبة والمقاومة، ساعد بقدر طاقته وظروفه فى دعم المقاومة المسلحة.
قرب منتصف سبعينيات القرن الماضى اعتقل أثناء محاولته تهريب أسلحة إلى الداخل الفلسطينى المحتل.
قضى أربع سنوات رهن الاعتقال قبل أن يذهب إلى المنفى فى الفاتيكان حتى لقى ربه.

فى تلك السنوات كان اسمه كافيا للشعور بالاعتزاز ومواقفه جديرة باحترام العالم العربى كله.
هو سورى الجنسية وفلسطينى الهوى.
على خطى المطران «كابوتشى» مضى بطاركة ورهبان آخرون على الطريق نفسه، يتصدرهم الآن المطران الخمسينى «عطالله حنا».
بصوت مدوٍ يدعو فى جميع المحافل إلى زوال الاحتلال «لكى ينعم شعبنا الفلسطينى بالحرية التى يستحقها».. «الطريق إلى السلام يمر عبر القدس، فلا سلام بدون القدس، ولا سلام دون عدالة».
هو ابن كنيسة القيامة، كما هو ابن فلسطين.

لم تكن مصادفة أن أعدادا كبيرة من المثقفين المسيحيين لعبت أدوارا ملهمة فى تأسيس منظمات الكفاح المسلح، التى نشأت بعد هزيمة يونيو (1967)، أبرزهم الدكتور «جورج حبش» مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورفيقه «وديع حداد» الذى تمكن «الموساد» من الوصول إليه بالسم.
المسيحيون العرب مكون جوهرى فى الملحمة الفلسطينية.
هذه حقيقة نهائية لا يصح المجادلة فيها بالجهل والتجهيل.

دفعوا فواتير النكبة وعذاباتها كما دفعها بقية الفلسطينيين، قاوموا الاحتلال باسم الوطنية الفلسطينية وقدموا شهداء كثيرين، كانت «شيرين» آخرهم.
لا ينكر أدوارهم سوى متعصب أو جاهل لا يدرى شيئا عما يجرى فى فلسطين المحتلة ولا طبيعة القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطنى من احتلال استيطانى عنصرى جاثم قبل أى شىء آخر.
باتساع الأفق الإنسانى على التنوع الطبيعى فى مجتمعاتها تكتسب القضايا الكبرى قدرتها على الإلهام والتأثير.
«
نحن هنا رغم الأذى والجحود..
مواكب تمضى وأخرى تعود..

نحن هنا نفجر الإيمان فى دربنا نورا
فينمو فى ثرانا الوجود».
هكذا لخص الشهيد الشاعر والمناضل «كمال ناصر» الإرادة الفلسطينية قبل أن يجرى اغتياله فى فبراير (1973) بالعاصمة اللبنانية بيروت فيما أطلق عليها «عملية فردان» مع رفيقيه «كمال عدوان» و«أبو يوسف النجار».
أطلق عليه الزعيم الفلسطينى «صلاح خلف»: «ضمير الثورة الفلسطينية».
دفن حسب وصيته إلى جانب صديقه الحميم «غسان كنفانى» الروائى الفلسطينى الأشهر.
كان ذلك حال القضية الفلسطينية فى أوقات تبلور المعانى الكبرى.
لا تفرقة بين مناضل وآخر حسب العقيدة الدينية، فالدين لله وفلسطين لأبنائها.

يستلفت الانتباه فى اليوميات الخطية لـ«جمال عبدالناصر»، التى كتبها أثناء حرب فلسطين، أن أعدادا كبيرة من الضباط والجنود الأقباط قد شاركوا فى تلك الحرب ودفعوا فواتير الدم.
بين هذه الأسماء الضابط «كمال بشارة»، وقد شارك «عبدالناصر» تجربة الحياة والموت والنوم فوق بطانية واحدة والتغطى بأخرى.
كانت ثقة «عبدالناصر» فيه بلا حد والإعجاب بنسقه الأخلاقى والعسكرى سجله بخط يده حين وبخ «بشارة» من تورطوا فى التمثيل بجثث القتلى اليهود فى منطقة المحجز يوم السبت (٢) أكتوبر (1948).
لا توجد معلومات عن مصيره، أو ما إذا كان «عبدالناصر» قد فاتحه فى الانضمام للضباط الأحرار، الذى أعاد تأسيسه بعد العودة من ميادين القتال.
كان خلو التنظيم من أية شخصية تنتمى إلى الديانة المسيحية مادة اتهام.

لم يكن الاتهام فى موضعه بالنظر إلى ما كتبه قائد «الضباط الأحرار» عن الحرب وأبطالها وضحاياها.
«
مات الشاويش جرجس» ــ كما كتب متألما.

فى المشرق العربى نشأت قبل النكبة أحزاب أسسها مسيحيون، أخذت زخمها بعدها، كـ«ميشيل عفلق» مؤسس حزب «البعث العربى الاشتراكى» و«أنطون سعادة» مؤسس الحزب «السورى القومى الاجتماعى».
تتفق أو تختلف مع حزب أو آخر، مع سياسى أو آخر، مسيحى أو غير مسيحى، لكن الحقائق الأساسية تفرض كلمتها الأخيرة.
وقد بدت تلك الكلمة مدوية فى مصر، إثر توقيع اتفاقيتى «كامب ديفيد» بالمواقف التى اتخذها «البابا شنودة الثالث» رأس الكنيسة الوطنية المصرية.
«
أنا آخر البابوات العظام الذين قالوا للمحتل الأجنبى لا».
هكذا وصف الصورة التى أراد أن يدخل بها التاريخ.
فى التفاته رجل لديه حس استثنائى بالتاريخ أغلق ذات حوار بيننا جهاز التسجيل.
سألنى: «هل تعتقد أن كل الدول العربية والإسلامية سوف تعترف بإسرائيل؟».
أجبته على الفور: «لا».
قال: «إذن لن أذهب إلى القدس أبدا».
كانت تلك درجة أكثر تشددا فى رفض التطبيع مع إسرائيل، أو زيارتها، أو السماح للأقباط بالحج إليها.
فى البداية قال: «لن أزور القدس إلا مع شيخ الأزهر».
ثم فكر فى احتمال أن يزور شيخ الأزهر المدينة المقدسة، وأن يكون الرأى العام العربى غاضبا ومعترضا.
رأى أن الأوفق ألا يزورها حتى لو ذهب إليها شيخ الأزهر.
عندما ذهب «أنور السادات» عام (1977) إلى القدس مانع «شنودة» فى الذهاب معه، ثم حسم أمره سريعا فى رفض اتفاقيتى «كامب ديفيد» (1978)، وما يترتب عليها.
كانت حسابات البابا أن مجاراة رئاسة الدولة فى سياساتها المستجدة قد يدفع قطاعات واسعة من الرأى العام العربى، فى مصر بالخصوص، إلى التشكيك فى الانتماء العربى لأقباط مصر.
«
لسنا خونة الأمة العربية» على ما دأب أن يقول باعتزاز.
عندما كان عليه أن يختار بين رئاسة الدولة والرأى العام فيها، اختار بلا تردد أن يصطدم مع «السادات»، مدركا أنه إذا ما جاراه فى التطبيع فسوف تلحق بالأقباط أضرار أفدح لا يمكن تداركها وشروخا لا يمكن ترميمها فى النسيج الوطنى.

تصادم ذلك الموقف مع مصالح بعض العائلات القبطية، التى لها صلات بالولايات المتحدة ومصالح محققة فى الغرب، متصورة بالوهم أن حماية الأقباط فى علاقات دافئة مع إسرائيل.


«
الحج لكنيسة القيامة الآن خيانة للمسيح».
أدار معركته بثقة فى قوة مركزه وضرب بقبضة البابوية من أسماهم «المتأمركين الأقباط».
كنت من الذين نصحوا البابا ــ عند منتصف تسعينيات القرن الماضى ــ أن يدخل المواجهة بنفسه، يلقى بثقله فى ميادينها، أن يكون هو بقضيته موضوع المواجهة.
حسم المواجهة بأسرع من أى توقع وحاز فى الوقت نفسه على شعبية كبيرة فى العالم العربى.
وصفته قبل أن تمتد الحوارات بيننا بـ«البابا العربى».

أرسل سكرتيره الصحفى الأستاذ «طلعت جاد الله» برسالة مختصرة: «البابا يريد أن يراك».
كان يدرك أن حماية الرأى العام المصرى والعربى قادرة على صيانة الكنيسة من التفكك والضعف.
مطلع القرن الحالى سألته «هل أنت مطمئن يا قداسة البابا إلى أن من سوف يأتى بعدك سوف يلتزم بتوجهاتك الرئيسية فى رفض التطبيع مع إسرائيل حتى لا تكون هناك فتنة أو اتهامات لأقباط مصر بأنهم خونة الأمة العربية، على ما تحذر دائما؟».

كانت إجابته: «لا تقلق، فما أعبر عنه هو التيار الرئيسى داخل الكنيسة المصرية، وهذه مدرسة لى فيها تلاميذ أوفياء سوف يحملون الراية بعدى».
بقوة الحقائق الثابتة يصعب التفرقة بين مسلمين ومسيحيين فى سردية القضية الفلسطينية.
إنها قضية مصير، لا تقبل القسمة، فإما نكون أو لا نكون.