فاروق يوسف يكتب:
بري، ألا يكفيه أن يكون رجل تاريخ؟
ليس من المستبعد أن لا يكون هناك أحد قد سمع بنبيه بري إلا باعتباره رئيسا لمجلس النواب اللبناني. ذلك واحد من أوصاف الحالة اللبنانية التي تحتاج دائما إلى ما يُسمى بـ"صمامات الأمان".
بري هو صمام أمان أو هكذا يفترضه البعض.
منذ 1992 والرجل يجلس على المقعد الرئاسي بعد أن كانت له مساهمة مشهودة في الحرب الأهلية. بمعنى أنه انتقل مباشرة من كونه واحدا من زعماء الحرب إلى مرحلة اعتلائه سدة الرئاسة في السلطة التشريعية التي تعتبر واجهة للحياة السلمية من غير أن يمر بفترة راحة واختبار على المستوى الوطني.
لم يذهب بري إلى البيت بعد انتهاء القتال كما فعل آخرون. والبيت هنا تعبير مجازي يشمل الموت الذي احتوى عددا من زعماء تلك الحرب بأشكال مختلفة. بري صمد في الحرب ولم يقهره السلام الذي تم تلفقيه ليكون بمثابة واحدا من ملحقات الحرب. صفته رئيسا لمجلس النواب لم يجر الاتفاق عليها إلا لكونه حافظا للكثير من ملفات الحرب على جبهاتها المختلفة. فالوطنية التي امتزجت بالطائفية، بل كانت واجهتها قد قدمته بطريقة تخون الحقيقة. وهو ما كشفت عنه مواقفه حين اللجوء إلى تعبير "الثنائي الشيعي".
فهو شيعي لبناني قبل أن يكون لبنانيا شيعيا.
لكن ذلك الحكم قد لا يبدو دقيقا إذا ما تعلق برئيس لمجلس النواب للمرة السابعة. رقم قياسي مقارنة بمَن سبقوه. وهو أمر يتعلق ببنية الحياة السياسية اللبنانية التي لا تقبل التغيير.
ولكن من حق الرجل أن يتعب. فالواجب الوطني يبدو أحيانا ثقيلا إذا ما تحتم على المرء أن يقوم بالدور نفسه لمدة ثلاثين سنة. هي العمر الذي يجتاز فيه الاستبداد السياسي مرحلة التجمد ليكون مشكلة مستعصية على الحل.
النظر إلى ظاهرة نبيه بري من تلك الزاوية سيكون بمثابة تفكيك للوضع السياسي في لبنان. وهو وضع لا يضع شروط الحياة السياسية السوية والسليمة كلها على الطاولة. فمَن يحتاج إلى الآخر بعد هذا العمل السياسي المضني، لبنان أم نبيه بري؟
ليس صحيحا القول إن طول العمر السياسي يكسب المرء خبرة في إدارة شؤون بلاده. العكس هو الصحيح تماما. لذلك فإن علاقة بري بلبنان ملتبسة. فالرجل وهو إنسان طبيعي بالتأكيد لابد أن يكون قد وقف عند مرحلة بعينها من تاريخ لبنان. فمشكلات لبنان اليوم هي ليست مشكلاته في الأمس. كل شيء تغير. تغير لبنان وتغير محيطه. تغير أعداؤه وأصدقاؤه في الوقت نفسه. تغيرت مصالحه غير أن الأهم ذلك التغير الذي ضرب مزاج شعبه. ومن حق الشعب اللبناني أن يغير مزاجه بعد أن ضاعت أمواله وفقد أحبته في كارثة الميناء وفي قوارب الموت ووصل إلى مرحلة السؤال عن الخبز بعد أن تخلى عن مائدته الوطنية المكتظة بالفواكه والخضروات. لبنان الآخر هذا لن يتمكن منه بري.
من وجهة نظري فإن الرئيس بري ظلم نفسه وظلمه الآخرون حين أيدوه في البقاء في منصبه. فإذا كان الرجل جزءا من الحكاية اللبنانية بكل ما تضمنته من خيبات ونكسات فإن ذلك لا يؤهله للاستمرار في رعاية وضع شائك ومعقد بأدوات قديمة. يكفيه أن يكون رجل تاريخ. ليس مهما ما نوع ذلك التاريخ. ولكن المهم هنا أن لا يستمر اللبنانيون في النظر إلى الوراء. ذلك لا يعني نصحهم بنسيان مآسيهم ولكنه يدعوهم إلى أن يكونوا قادرين على أن معالجة مشكلاتهم الحالية بعيدا عن الأساليب القديمة. ما يجري في لبنان من كوارث جماعية ضربت الفرد في صميم حياته المعيشية وفي كرامته المهددة بأن تُهدر كاملة لا يمكن معالجتها بأساليب وتقنيات وأفكار قديمة.
بعد ثلاثين سنة من الحكم لابد أن يشعر نبيه بري أن مكانه في رئاسة مجلس النواب اللبناني هو أشبه بالقبر الذهبي الذي يضمه باعتباره رئيسا أبديا يمكنه أن يحكم من خلاله في غيابه. أعتقد أنها فكرة ستكون مزعجة لو تمتع الرئيس بري فجأة بإجازة إجبارية يضطر فيها إلى كتابة مذكراته. ولكنه بعد السطر الأول من تلك المذكرات لابد أن يشعر أنه قد أخطأ في إضاعة وقته في زمن ليس له.