سالم يحيى شجون يكتب لـ(اليوم الثامن):
جنوب أفريقيا.. واحة التعايش الاجتماعي
لم تسلط الأضواء عليها كثيرا ، بل تكاد لا تذكر حتى في التقارير الخاصة بالقارة السمراء في وسائل الإعلام العالمية. فاجأت العالم وأبهرته أيما انبهار في استضافتها وتنظيمها الأكثر من رائع لكأس العالم 2010م.
مدنها لا تقل جمالا وتطورا عن المدن الأوروبية وخاصة مدينة جوهانسبرج وهي أكبر مدن جنوب أفريقيا وثالث أكبر المدن اكتظاظا بالسكان في القارة السمراء بعد العاصمة المصرية (القاهرة) ومدينة (لاجوس) النيجيرية. لؤلؤة المحيطين الهندي والأطلسي ، إنها جمهورية جنوب أفريقيا.
خضعت البلاد كما الكثير من بلدان العالم للاستعمار ، والبداية كانت في مستعمرة كيب التي كانت تحت سيطرة البريطانيين ، وأصحبت مستعمرة تابعة لهم رسميا في العام 1815م. انتقل المستوطنين إلى كيب بتشجيع من بريطانيا التي قدمت لهم الدعم وخاصة مستوطني 1820م ؛ كي يقيموا الأعمال الزراعية في الأراضي المتنازع عليها بين مملكة كوسيون والمستوطنين الأوروبيين في المنطقة التي باتت تعرف اليوم باسم كيب الشرقية. انتقال السيادة من الهولنديين إلى البريطانيين في كيب تسبب باستبعاد المزارعين الهولنديين في المنطقة فبدءوا هجرتهم الجماعية الكبرى في عشرينيات القرن التاسع عشر نحو المناطق الشمالية ، ما نسميه اليوم دولة جنوب أفريقيا.
شهدت تلك الفترة أيضا تصاعد نفوذ قبائل الزولو تحت إمرة ملكهم شاكا زولو ما نتج عنه عدة نزاعات بين البريطانيين والزولو والبوير وهو اتحاد المستعمرين الأفريكانيين والبريطانيين الذين ينحدرون من أصول هولندية انتهت بهزيمة الزولو والهزيمة النهائية للبوير في حرب البوير الثانية ، غير أن معاهدة فيرنيغنغ تكلفت في ترسيخ الإطار لاستقلال الجنوب الأفريقي المحدود تحت اسم اتحاد جنوب أفريقيا.
دخلت البلاد في نزاع عرقي وعنصري بين أصحاب الأرض الأكثرية السوداء الأفارقة وبين المحتلين الأقلية البيضاء الأوروبيين. شغل ذلك النزاع حيزا كبيرا من سياسة البلاد وتاريخها.
فبالرغم من أن جنوب أفريقيا هي من الدول القلائل في العالم التي لم تشهد انقلابات قط إلا أن العام 1948م شهد رسميا ولادة كابوس الفصل العنصري في البلاد عندما أنشأ الحزب الوطني ، وهو جله من المستعمرين الأوروبيين الذي سيطر على الحياة السياسية في البلاد من العام 1948م وحتى العام 1994م. أنشأ قانون الفصل العنصري "الأبارتايد" ساعد هذا القانون على إضفاء مؤسساتي على التمييز العنصري وهيمنة المستعمرين الأوروبيين على الأعراق الأخرى.
كان قد سبق هذا القانون وجود تشريعات فصل عنصري في عهد الحكومات البريطانية والأفريكانية "جنوب أفريقية من أصول أوروبية" وأكبر مثال على ذلك هو قانون غلين غراي الذي صدر عام 1894م في مستعمرة كيب والذي قلص من حقوق ملكية الأفارقة للأراضي المسجلة. والفرق بين الفصل العنصري "الأبارتايد" والفصل العنصري في البلدان الأخرى هو الطريقة المنهجية التي صيغ بها القانون ، حيث طبق من خلال العديد من القوانين والأفعال ، حيث سن الجزء الأكبر من هذا التشريع بعد انتخاب حكومة الحزب الوطني في عام 1948م.
فمثلا عام 1950 اشترط قانون تسجيل السكان على تصنيف كل مواطن في جنوب أفريقيا كواحد من "المجموعات السكانية" العرقية. أمن هذا التصنيف القاعدة التي بني على أساسها الفصل العنصري بأكمله ، بينما سمح قانون الحفاظ على الفصل العنصري في المرافق العامة لعام 1953م بفصل الأعراق عن بعضها في الأماكن العامة والمركبات والخدمات على الرغم من أن التسهيلات لم تكن متساوية ولم تكن متاحة لجميع الأعراق ، إضافة إلى قائمة من القوانين التي لا تقل قساوة عن سابقتها من القوانين كقانون الفصل في التعليم وقانون حجز الوظائف وقانون الفصل العنصري الاقتصادي وقانون الفصل العنصري الجنسي وغيرها من القوانين التي كانت كابوسا عاشه السكان الأصليين بجنوب أفريقيا لعشرات السنين.
ثم بدأت تتساقط أوراق هذه القوانين قانونا تلو الآخر ابتداء من قانون الحفاظ على الفصل في المرافق العامة الذي سقط عام 1990م بموجب قوانين إلغاء التمييز العنصري ، وتلاه قانون تسجيل السكان الذي ألغي عام 1991م ، لكن التصنيفات العرقية بقيت في سجل السكان حتى عام 1992م حتى ألغيت جميع قوانين الفصل العنصري بالكامل ، وسقطت رسميا في 30/6/1991م.
وفي 27/4/1994م أجريت أول انتخابات متعددة الأعراق في جنوب أفريقيا مسدلة بذلك الستار عن مشهد مروع من مشاهد تاريخ البلاد، لتبدأ جمهورية جنوب أفريقيا صفحة جديدة بدأت سطورها الأولى بالتسامح والدعوة للتعايش الاجتماعي بسلام وبناء جنوب أفريقيا الحرة القوية ، وقد فاز بتلك الانتخابات السياسي المناهض لنظام الفصل العنصري ، والذي كان رئيسا للجناح المسلح لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. تم اتهامه أمام محاكم المحتلين الأوروبيين بتهمة التخريب وتم تحميله مسئولية "الجرائم" التي ارتكبت ضد المستعمرين الأوروبيين ، ثم نفته سلطات الاحتلال إلى جزيرة روبين ليسجن فيها 27 عام. إنه الزعيم نيلسون روليهلاهلا مانديلا (18/7/1918 – 5/12/2013م) ليصبح بذلك أول رئيس ذو بشرة سمراء لجنوب أفريقيا من عام 1994م حتى عام 1999م ، وكان ضمن أقواله الشهيرة "الشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام".
لا أحد منا يمكن أن يحقق النجاح بأن يعمل لوحده .. قمة المجد ليست في عدم الإخفاق أو الفشل ، بل في القيام بعد كل عثرة ، وقال في شأن السجن الذي قضى فيه أكثر من 27 عاما "لا شيء في السجن يبعث على الرضا ، سوى شيء واحد وهو توفر الوقت للتأمل".
أما في شأن التعليم وهو الأهم فقد قال نيلسون مانديلا "لن تتطور أمة قط حتى يتعلم شعبها". فكان التعليم هو القطار الذي حمل شعبه عليه وانطلق به نحو آفاق أوسع.
وفي سياستها أولت الحكومة منذ عهد نيلسون مانديلا اهتماما كبيرا للتعليم حتى أن الإحصائيات تشير إلى أن حكومة جنوب أفريقيا أنفقت في عام 2013م حوالي 21%من الميزانية الوطنية على التعليم ، وخصصت 10% من ميزانية التعليم للتعليم العالي وهي نسبة كبيرة مقارنة بالعديد من الدول ، ولذلك تميزت الدراسة في جنوب أفريقيا بنظام تعليم عالي قوي جدا ، مما جعل منها وجهة دراسية جذابة للطلاب الدوليين من جميع أنحاء العالم.
تصنف جنوب أفريقيا بأنها الوجهة رقم (11) عالميا في الدراسات العليا ، لذلك تعتبر مركزا تعليميا قويا جدا ، حيث تضم البلاد 42 جامعة خاصة ، و26 جامعة حكومية ، تقدم الجامعات الحكومية التعليم العالي في ثلاثة أنواع من المؤسسات: (1) 12 جامعة أكاديمية تقليدية. (2) 8 "تكنيكيون" تقدم دورات فنية ومهنية. (3) 6 جامعات شاملة تقدم مزيج مما سبق ، كما أظهرت جامعة تايمز للتعليم العالي في تصنيفها لعام 2019م تسع جامعات بما في ذلك ثلاث جامعات من بين أفضل 400 جامعة عالميا: (1) جامعة كيب تاون. (2) جامعة ويتواترسراند (3) جامعة ستيلينبوش.
تتفوق العديد من جامعات جنوب أفريقيا في موضوعات معينة ، لكن دراسات التنمية هي قوة خاصة للبلاد على الصعيد العالمي ، حيث تحتل جامعة كيب تاون المرتبة التاسعة عالميا بينما تحتل جامعة ويتواترسراند المرتبة الثامنة عشر.
وجنبا إلى جنب ساعد نظام التعليم المتطور في جنوب أفريقيا في تحسن حالة الاقتصاد والتنمية في البلاد خصوصا بعد رفع العقوبات عنها عام 1996م ، حيث تضاعف الناتج المحلي الإجمالي لجنوب أفريقيا ثلاث مرات تقريبا ليبلغ ذروته عند 400 مليار دولار في عام 2011م ، ولكنه انخفض إلى ما يقارب 283 مليار دولار في عام 2020م ، كما زادت احتياطيات النقد الأجنبي في ذات الفترة من 3 مليارات فقط إلى ما يقارب 50 مليار دولارا ، مما خلق اقتصادا متنوعا مع طبقة وسطى متنامية وكبيرة ، كما لعبت الشركات المملوكة للدولة في جنوب أفريقيا دورا مهما في اقتصاد البلاد ، حيث تمتلك الدولة حصة في حوالي 700 شركة تشارك في مجموعة واسعة من الصناعات المهمة ، كما اعتمدت البلاد في اقتصادها المتنوع على خام الحديد والماس والذهب والبلاتين والمعادن وصناعة السيارات والآلات والإلكترونيات وأيضا المعدات العسكرية البرية والجوية ، وإنتاج الفواكه والمواد الغذائية الزراعية
في عام 2016م واجهت الحكومة تحديات في ممارسة الأعمال التجارية في مؤسسات الدولة وهي البيروقراطية الحكومية الغير فعاله ولوائح العمل التقييدية.
تعد جنوب أفريقيا من بين مجموعة العشرين وهي صوت القارة السمراء الوحيد في مجموعة العشرين ، كما أن اقتصادها هو ثاني أكبر اقتصاد في القارة بعد الاقتصاد النيجيري وهو الاقتصاد الأكثر تطورا وتنوعا وتصنيعا من الناحية التكنولوجية في قارة أفريقيا.
كما تعد جمهورية جنوب أفريقيا الأكثر تنمية والأغنى في القارة الأفريقية ويشكل سكانها البالغ تعدادهم أكثر من 60 مليون نسمة نحو 6% من سكان القارة ، بينما تغطي مساحتها البالغة 1222000 كم2 نحو 4% من مساحة القارة ، كما يمتد شريطها الساحلي البالغ طوله 2798 كم على جنوب المحيطين الهندي والأطلسي ، وتحتضن جنوب أفريقيا على أراضيها أكبر تجمع سكاني هندي خارج قارة آسيا ، وأكبر مجتمع ملون في قارة أفريقيا ، كما تحتضن أكبر عدد من السكان ذوي الأصول الأوروبية في القارة الأفريقية مما يجعلها من أكثر الدول تنوعا في قارة أفريقيا.
جمهورية جنوب أفريقيا التي عانت من أفظع نظام عنصري في التاريخ الحديث ، استطاع شعبها أن يداوي جراحه واستطاعت أن تصبح دولة قوية وتصنف ضمن الدول المتقدمة.
والآن وبعد أكثر من ثلاثة عقود على لفظ النظام العنصري رسميا أنفاسه الأخيرة ، تأبى جمهورية جنوب أفريقيا إلا أن تكون واحة للتعايش الاجتماعي.