سالم يحيى شجون يكتب لـ(اليوم الثامن):
خطواتنا بطيئة لكننا في الطريق الصحيح
دعونا نبدأ مقالنا هذا من العام 1990م تحديدا الثاني والعشرين من مايو يوم "الفخ" الذي حاكه لسنوات طوال نظام صنعاء عاصمة الجمهورية العربية اليمنية بزعامة رأس النظام علي عبد الله صالح الذي لطالما انتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر ، وقد كان "فخا" محكما للغاية ومدروس بدقة وتأن ونصب في الوقت المناسب تماما ووقعت فيه جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لينقض عليها علي عبد الله صالح ونظامه وأطلق عليه اسم "يوم الوحدة".
تلك الوحدة المزعومة كان شعار خدع به الجنوبيون في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الذين كانوا يمرون بمنعطف تاريخي وعالمي خطير للغاية وهو انهيار الاتحاد السوفيتي قائد الاشتراكية والشيوعية في العالم ، وانهيار الاشتراكية والشيوعية برمتها في العالم ، والتي كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية جزء منها ، كان ذلك الحدث بين عامي 1989م و1990م ، حيث أعلنت صراحة بعض الدول الاشتراكية في تلك الفترة عن تخليها عن الاشتراكية وتحولها للرأسمالية ، بينما التزمت الأخرى الصمت تماشيا مع الظروف السياسية آنذاك منتظرة ما ستؤول إليه الأمور.
فجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وعاصمتها عدن كانت الدولة الشيوعية الوحيدة في الوطن العربي وكان لها وضعها الخاص ، حيث كانت البلاد مازالت تداوي جراح يوم الاثنين الموافق 13 يناير 1986م الذي وللأسف أحدث شرخا عميقا في المجتمع الجنوبي بعد حرب أهلية لم تستمر طويلا فقط أحد عشر يوما ، لكنها وبسبب بشاعتها كانت كافية لأن تبنى على أنقاضها أحداثا سياسية وحتى اجتماعية حددت مصير البلاد بأكملها فيما بعد. وكنت حينها أنا كاتب هذا المقال في جزيرة ميون في باب المندب لإداء الخدمة العسكرية الدفعة الثامنة عشر ، صحيح أن جزيرة ميون في باب المندب لم تطلق فيها رصاصة واحدة حالها حال الكثير من مناطق الجنوب ، إلا أن الآثار السياسية والاجتماعية المدمرة التي خلفتها الحرب شملت كل مناطق الجمهورية.
سقط في تلك الأيام القلائل من الحرب آلاف الضحايا ، كما أدى ذلك الصراع الدموي إلى مقتل وفرار الكثير من الكوادر القيادية الأكثر خبرة في الحياة السياسية والعسكرية ؛ مما سهم في إضعاف الحكومة.
معظم القيادات العليا فروا إلى الجمهورية العربية اليمنية واستقروا في صنعاء إلا أن بعض القيادات الجنوبية مثل الرئيس علي ناصر محمد وغيره غادروا صنعاء فيما بعد إلى دول أخرى ؛ وذلك لعدم ثقتهم في نظام صنعاء أو لربما أيضا شعروا بأن هناك مؤامرة على الجنوب. وأن نظام صنعاء قد يستخدمهم بشكل أو بآخر ضد بلدهم مستغلا بذلك "الشرخ" الجنوبي ، فعمل على تعميق ذلك "الشرخ" ليسهل عليه اختراق الدولة الجنوبية بمختلف وزاراتها ومؤسساتها ، وهذا ما حدث بالفعل ، وتجلى ذلك بوضوح بعد 22 مايو 1990م ، حيث كان من المفترض أن تندمج الدولتان وتشكل دولة واحدة بعد أن يؤخذ بالأحسن من المؤسسات والأنظمة في كل من الدولتين.
لكن ما حدث كان عكس ذلك تماما ، فقد مارس نظام صنعاء منذ الأيام الأولى لما سمي "بالوحدة" سياسة "سحق وتهميش" واضحين لكل ما هو واقع في جغرافيا الجنوب. بدءا بإرسال مجموعات كبيرة من رجال الأمن السياسي "المخابرات" للجنوب تحت مسميات عديدة مثل "تجار" وكان أغلبهم من محافظة تعز ، وجلب هؤلاء التجار عائلاتهم معهم كي يبعدوا عن أنفسهم الشبهات ، واستأجروا بيوت ومحلات في الجنوب وخصوصا في العاصمة عدن.
وفي سبيل تحقيق "الوحدة" تنازل الجنوبيون عن كل شيء ، فالرئيس هو علي عبد الله صالح وهو شمالي وعدن لم تعد العاصمة ، فالعاصمة هي صنعاء والعملة لم تعد الدينار الجنوبي الذي كان يعادل "ثلاثة دولارات" (ثلاثة دولارات = دينار واحد جنوبي) فأصبح الريال الشمالي هو العملة لليمن الموحد الذي كان يعادل (اثنى عشر ريال شمالي = دولار واحد) في ذلك الوقت ، وحتى طيران اليمن الديمقراطي "اليمدا" الذي كان مملوكا للدولة الجنوبية 100% ألغي واستبدل بطيران الجمهورية العربية اليمنية "اليمنية" التي حصة الدولة في الشمال فيها 60% و40% لصالح دولة أخرى ، وهكذا بدأت الأمور تتضح شيئا فشيئا.
وتخيل عزيزي القارئ حتى المناهج الدراسية التي كانت على مستوى عالي في الجنوب ألغيت واستبدلت بمناهج أقل جودة ، وكذلك فعل بالنظام الصحي برمته.
ففي المستشفيات والمصانع والمزارع وقطاع السياحة والثقافة وغيرها ، فحدث ولا حرج فقد تعرضت وبلا هوادة للتدمير الممنهج تحت مسمى "الخصخصة". وأتذكر حينها بأنني كتبت عدة مقالات في هذا الشأن من ضمنها مقال في جريدة الأيام بعنوان "القطاع العام والهجمة الشرسة" تكلمت فيه عن الوضع المأساوي الذي نعاني منه نحن الجنوبيون بسبب تدمير مؤسساتنا. وازداد الوضع سوءا في الجنوب ووصل لحد اللامعقول ، فتعالت أصوات الجنوبيين مطالبين بإعادة النظر فيما يسمى "بالوحدة" ، فما كان من نظام علي عبد الله صالح إلا أن قام باغتيالات لعدد من القادة الجنوبيين مدنيين وعسكريين في مدن ومحافظات الجنوب محاولا بشتى الطرق إسكات الأصوات المطالبة بفك الارتباط ، لكن الكيل فاض وشعب الجنوب من المهرة إلى باب المندب قال كلمته "لا للوحدة" وخرجت الجماهير الجنوبية في شوارع الجنوب مطالبة بطرد المحتل الذي يلبس ثوب الوحدة ، فما كان من رئيس النظام في صنعاء علي عبد الله صالح إلا أن أعلن كلمته في وسائل إعلامه "الوحدة أو الموت" لتندلع الشرارة الأولى للحرب رسميا في 27 أبريل 1994م.
وفي خضم الحرب بعد أقل من شهر واحد على بداية الحرب أعلن الرئيس على سالم البيض في 21 مايو 1994 عن فك الارتباط مع الجمهورية العربية اليمينة ، وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية وعاصمتها عدن.
صحيح أننا لم نحظ باعتراف دولي إلا من دولة واحدة فقط ، لكن شعبيا ومحليا وهذا من حقنا سقط رسميا ما يسمى "بالوحدة" ، وأصبحنا رسميا ندافع عن وطننا من المحتل الغاشم ، ودارت معارك شرسة في كل المحاور بين جمهورية اليمن الديمقراطية والجمهورية العربية اليمنية استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة من الصواريخ والطائرات والدبابات والمدفعية والبوارج الحربية ، وجميعنا حملنا السلاح دفاعا عن جنوبنا.
اشتدت المعارك لا سيما مع اقتراب المحتل الغازي من حدود العاصمة عدن وكان لأولائك التجار رجال الأمن السياسي "المخابرات" الشماليون ومعظمهم من محافظ تعز الذين جاءوا للجنوب واستأجروا محلات وبيوت قبل الحرب.
كان لهم دورا خطيرا ، حيث كانوا يرصدون تحركات القوات الجنوبية من عدن ويرسلوا إشارات إلى قوات الاحتلال الغازية بتحرك قوة من معسكر "كذا" باتجاه طريق كذا ليتم استهدافها من قبل قوات الاحتلال ، وهكذا تعرضنا لخيانة من أولائك التجار الشماليون.
وبعد معارك شرسة استمرت قرابة الشهرين ونصف الشهر سقط فيها آلاف الشهداء والجرحى ، سطر خلالها الجنوبيون الذين كانوا على قلب رجل واحد أروع ملاحم الشجاعة والبطولة.
وللأسف سقطت عدن في 7/7/1994م ، وكان لسقوطها ألما شديدا في نفوسنا.
بعد سقوط العاصمة عدن أعلن عن انتهاء العمليات العسكرية ؛ ليبدأ المحتل سياسة لربما هي أشد قسوة من سابقتها وهي "سياسة العقاب". سيطرة كاملة على كامل الأراضي الجنوبية بما فيها من وزارات ومؤسسات وغيرها تحت حكم قادة عسكريون شماليون ، تسريح وفصل ما تبقى من كوادر جنوبية من عسكريين ومدنيين من وظائفهم والذي كنت أنا كاتب هذا المقال واحدا منهم في وزارة الثقافة في عدن وإحالة الكثير منهم إلى المعاش المبكر.
تم قطع الرواتب لفترات طويلة ، التردي المتعمد للخدمات في محافظات الجنوب ، وتحت هذا الكم الهائل من الضغط هاجر الكثير من الجنوبيين خارج البلاد وكانت وجهتي إلى القاهرة – مصر.
استمر المحتل في اضطهاده الممنهج للجنوبيين ، ومع كل سياسة "خنق" ينتهجها المحتل ضد الجنوبيين كان الجنوبيون يزدادون تمسكا بحقهم ، وإصرارا على استعادة دولتهم ليأتي يوم 13 يناير 2006م ، وبمناسبة الذكرى العشرون لأحداث 13 يناير 1986م نظم فيه الجنوبيون مسيرة التصالح والتسامح ليصبح 13 يناير هو يوم "التصالح والتسامح" ، وبذلك ازداد الجنوبيون توحدا وتلاحما ، وفي فترة قصيرة جدا استطاع الجنوبيون إعادة تنظيم صفوفهم من جديد داخل الجنوب المحتل وخارجه لنصل إلى يوم 7/7/2007م كانت الذكرى الثالثة عشر لاحتلال الجنوب ، وكان هذا اليوم هو اليوم الذي وضع فيه الجنوبيون رسميا حجر الأساس للحراك الجنوبي السلمي الذي طالب المحتل بالرحيل عن الجنوب.
ومع كل يوم يمر ، وكل أسبوع ، وكل شهر منذ ذلك التاريخ كان الجنوبيون يحققون تقدما ، بينما كان موقف المتحل يزداد حرجا ؛ لنصل إلى أحداث عام 2011م التي أسقطت بعض الأنظمة العربية وكان من ضمنهم نظام الجمهورية العربية اليمنية في صنعاء.
سقوط النظام في صنعاء بعثر أوراقا كثيرة وقرب الجنوبين أكثر من تحقيق هدفهم.
تتوالى الأحداث سريعا ، وتندلع الحرب في اليمن في 25 مارس 2015م ، ويستغل الجنوبيون هذه الفرصة ويخوضون معارك شرسة مع المحتل في الجنوب لطرده ، ويسقط الآلاف من الشهداء والجرحى من الجنوبيين ، لكن هذه المرة الكلمة الأخيرة لنا "انتصرنا" انتهت الحرب في الجنوب بطرد المحتل.
وتخوض القوات الجنوبية الآن معارك داخل أراضي الجمهورية العربية اليمنية ضمن دول التحالف العربي ، أما في الجنوب فقد خرجت الجماهير الجنوبية لطرد أولائك الخونة والجواسيس "التجار" ومعظمهم من أبناء محافظة تعز الشمالية وترحيلهم إلى بلادهم وهذا من حق كل جنوبي يريد تطهير بلاده.
اليوم لا وجود لما يسمى "باليمن الموحد" على أرض الواقع ، فالجنوب العربي بالكامل من المهرة إلى باب المندب في يد أبنائه.
صحيح أن هناك عقبات وهناك أيضا عثرات وربما مشاكل سياسية واقتصادية كبيرة تبطئ من إعلان قيام جمهورية الجنوب العربي وعاصمتها عدن "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" سابقا ، لكن كل أراضينا في أيدينا وهذا إنجاز كبير.
التقيت هنا في القاهرة بمصر بعدد من شباب الجنوب جرحى الحرب والبعض منهم أعمارهم بين 20 – 22 عاما تقريبا أي أنهم ولدوا في الأشهر الأولى من الاحتلال ما سمي "بالوحدة" إلا أن حبهم لبلدهم الجنوب فوق كل شيء وهذا ما لمسته منهم فأدركت بأننا قادرين على تخطي كل العقبات وأننا قاب قوسين أو أدنى من وضع اللمسات الأخيرة لإعلان قيام دولتنا.
صحيح أن خطواتنا بطيئة بعض الشيء ؛ وذلك بسبب الأحداث العالمية من حولنا ، لكننا ... وهذا هو الأهم ، أننا على الطريق الصحيح