سالم يحيى شجون يكتب لـ(اليوم الثامن):
ماليزيا .. نهضة أمة
تتربع على مساحة تقدر بـ 330920 كم2 في جنوب شرق آسيا ، تتخذ من الملكية الدستورية نظاما لحكمها ، ومن البرلمان الماليزي سلطة للتشريع ، كما تتخذ من الحكومة الماليزية سلطة للتنفيذ.
لكن سبق كل هذا أحداثا مرت بها ماليزيا ، حيث أن موقعها الاستراتيجي الهام على الطرق البحرية جلب لها العديد من العادات والثقافات التي تأثرت بها بشكل رئيسي ، حيث الشرق الأوسط المسلم ، وأوروبا المسيحية ، والهند الهندوسية من غربها ، واليابان والصين من الشمال الشرقي ، جميعهم كانوا مؤثرات رئيسية أتت عبر طرق التجارة المارة عبر المنطقة ، كما أن تاريخ ماليزيا ملتحم أيضا مع تواريخ جاراتها سنغافورة ، وسلطنة بروناي ، وإندونيسيا ، وتايلاند ، والفلبين. هذه التجارة والثقافات الأجنبية جلبت للمنطقة ثروات هائلة وتنوع كبير ، إلا أنها أيضا جلبت معها الهيمنة والاستعمار.
قديما كانت شبه جزيرة ماليزيا فوق المحيط الهندي نقطة التقاء للتجار الصينيين والهنود الذين اعتمدوا على الرياح الموسمية في رحلاتهم التجارية ، وذلك لموقعها الجغرافي الهام.
جذبت مراكز ماليزيا الغنية التجار والمغامرين من عدة بلدان وامتزجت فيها الشعوب ، كما الحضارات. أدخل العرب الإسلام للمنطقة التي غدا الدين الرسمي لماليزيا. وأثر الهنود في الثقافة والفن الماليزي ، ومهد البريطانيون لإرساء دعائم التطور السياسي ، بينما قدم الألمان والهولنديون الأفكار والأساليب الاقتصادية.
حتى العام 1963م لم يكن لماليزيا وجود كدولة موحدة ، فعلى الرغم من أن ماليزيا تنقسم إلى قسمين يفصل بينهما بحر الصين الجنوبي هما بورنيو الماليزية والمعروفة أيضا باسم ماليزيا الشرقية ، وشبه الجزيرة الماليزية. وعلى الرغم من أن البلاد مرت بسلسلة أحداث سياسية وعسكرية إلا أنها في النهاية استطاعت أن تنشئ دولة موحدة تحت اسم ماليزيا.
ففي السابق بسطت بريطانيا نفوذها في مستعمرات تلك المناطق حتى أواخر القرن الثامن عشر ، حيث تكون النصف الغربي من ماليزيا من عدة ممالك مستقلة في تلك المناطق لتشكل تلك المستعمرات ما عرف باسم مالايا البريطانية حتى حلها في عام 1946م ، وتم تنظيمها ضمن اتحاد الملايو ، ولكن في العام 1948م ، ونظرا للمعارضة الواسعة أعيد تنظيمها مرة أخرى ضمن اتحاد ملايا الفيدرالي الذي حصل على الاستقلال في 31/8/1957م ، وفي وقت لاحق دمجت معها كل من ساراواك وبورنيو الشمالية البريطانية وسنغافورة لتشكل ماليزيا في 16/9/1963م. لكن وبما أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن ، فقد حدثت توترات ضمن الاتحاد الجديد أدت إلى نزاع مسلح بين كل من إندونيسيا وسنغافورة ما نتج عنه خروج الأخيرة من الاتحاد الجديد في 19/8/1965م لتصبح سنغافورة دولة مستقلة.
شهدت ماليزيا طفرة اقتصادية وتطورا سريع ، وذلك في أواخر القرن العشرين حيث يحدها طريق بحري مهم جدا في الملاحة الدولية وهو مضيق ملقا ، وتشكل الصناعة أحد القطاعات الرئيسية في البلاد ، كما أن التجارة الدولية هي جزء أساسي في اقتصاد ماليزيا.
تعد ماليزيا من الدول الإسلامية الأكثر تقدما وتطورا في العالم ، فقد اثبتت خلال السنوات الأخيرة كفاءة عالية جدا في المعيشة والصحة والتعليم والاقتصاد ، فإذا ما بدأنا بمجال التعليم في ماليزيا وهو الأكثر جودة في العالم ، فإن البلاد تتميز بالعديد من نقاط القوة ، حيث أولت الحكومة منذ سنوات طويلة رعاية كبيرة للاهتمام بالتعليم بمختلف مراحله من الابتدائية وحتى التعليم الجامعي ، فقامت الحكومة الماليزية بتحرير المناهج التعليمية من القيود وتدريب المعلمين ليكونوا الأكثر جودة من العناصر البشرية الأخرى.
أما في المجال الصحي فتعد ماليزيا الأولى عالميا ، وتليها كوستاريكا ، ثم المكسيك في المرتبة الثالثة حسب تقرير نشرته مجلة انترناشيونال الدولية.
كما تعد مدينة كوالالمبور هي المدينة الأولى في ماليزيا ، حيث أنها طبعا العاصمة السياسية للبلاد ، لكنها ليست العاصمة الوحيدة في ماليزيا ، حيث في العام 1999م نقلت جميع الوزارات ومقر الحكومة المركزية الاتحادية والمؤسسات إلى مدينة بوتراجيا وهي مدينة جديدة قريبة جدا من كوالالمبور لتخفف الضغط على العاصمة كوالالمبور وتصبح العاصمة الإدارية لماليزيا ، لكن على الرغم من أن كوالالمبور لم تعد العاصمة الإدارية للبلاد ، إلا أنها ما زالت تحتفظ بالثقل السياسي والاقتصادي والتجاري ، ويعتمد سكان مدينة كوالالمبور على السياحة كمورد عام لهم حيث أن مدينة كوالالمبور تجذب ملايين السياح من حول العالم ، فهي من المدن السياحية العالمية التي لها ثقل ممتاز في هذا المجال ، كما أن المدينة بها العديد من مؤسسات البلاد المالية الضخمة ، وهي أهم المراكز الصناعية والتجارية ليس في ماليزيا فحسب بل في منطقة جنوب شرق آسيا أيضا.
والوصول إلى المكانة التي وصلت إليها ماليزيا من تقدم وتطور كبيرين مر بعدة مراحل نقلتها إلى عملاق اقتصادي استطاع تحقيق نهضة شاملة في شتى المجالات بعد أن كانت بلدا يعتمد على مزارع وحقول المطاط.
صحيح أن ماليزيا شهدت توسعا اقتصاديا في السبعينيات من القرن الماضي، حيث بلغ المعدل 7.9% سنويا في ذلك العقد ، إلا أن الثمانينات شهدت انطلاقة نمو لم يسبق لها مثيل ، كانت انطلاقة الثمانينات امتدادا لما كشفت عنه الحكومة الماليزية عن برنامج للإصلاح الاقتصادي سمته "سياسة اقتصاد جديدة" كان ذلك عام 1971م.
أعادت الحكومة توزيع الثروة بين أفراد المجتمع ضمن سياسة هذا البرنامج وخاصة سكان الملايو محاولة بذلك خلق طبقة متوسطة حضرية جديدة واسترضاء الفلاحين الغاضبين ، لكن تلك السياسة كان من الطبيعي أن تأخذ وقتا حتى نضجت.
في البداية كان هذا النضج واضحا بشكل كبير في مجال التعليم ، حيث أدى التطور السريع في المناهج التعليمية الرسمية إلى خلق ما يكفي من المواهب لدعم الثورة الصناعية ، تزامن ذلك مع انخفاض أعداد المزارعين والصيادين الذين امتهنوا مهنة آبائهم منخفضة الأجر ، وهاجر الكثير من الشباب إلى المدن بمعدلات كبيرة ، وأصبح هؤلاء الشباب تروس الاقتصاد الحديث لماليزيا ، وقد أدى هذا التوسع إلى إنشاء مدن جديدة قريبة من العاصمة كوالالمبور من أجل تلبية احتياجات الطبقة المتوسطة الجديدة.
في السابع من سبتمبر عام 1981م يطلق رئيس الوزراء مهاتير محمد عملية أطلق عليها اسم "غارة الفجر" وفي أقل من أربع ساعات فقط سيطرت الحكومة الماليزية على أسهم شركة زيت النخيل والمطاط البريطانية "جوثري" في بورصة لندن.
كما كان لرئيس الوزراء ورائد نهضة ماليزيا مهاتير محمد دورا رئيسيا في تقدم وتطور البلاد ، وكان الرجل من أكثر القادة تأثيرا في آسيا خلال فترة حكمه التي امتدت من عام 1981م إلى عام 2003م ، حيث ارتبط بجدارة واستحقاق اسم مهاتير محمد بنهضة ماليزيا ، حيث بلغت صادرات ماليزيا من السلع المصنعة نحو 85% من إجمالي الصادرات بينما ساهم قطاعا الخدمات والصناعة بنحو 90% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.
استمرت ماليزيا بالنمو السريع على كافة الأصعدة ، كان ذلك في عهد رئيس وزرائها السابع والذي انتخب لخمس مرات متتالية استمرت فترة حكمه لـ 22 عاما من عام 1981م إلى عام 2003م ، كما ذكرنا سالفا ، وكانت تلك هي المرة الأولى في تاريخ ماليزيا التي ينتخب فيها رئيس وزراء خمس مرات متتالية ، تمكنت ماليزيا خلال فترة حكمه من وضع اسمها ضمن عمالقة التكنولوجيا المتطورة في آسيا إلى جانب اليابان وكوريا الجنوبية مثلا.
وكما أن مثلا للعاصمة الفرنسية باريس رمزا وهو برج "إيفل" ، ولمدينة نيويورك رمزا وهو مبنى "إمباير ستيت" فإن للعاصمة الماليزية كوالالمبور اصبح رمزا جديدا وهو برجا "بتروناس التوأم" بعد أن كان مبنى السلطان عبد الصمد معلما رئيسيا لما يقارب من 100 عاما.
فباتت ماليزيا اليوم ليست من الدول الإسلامية الأكثر تقدما وتطورا فسحب ، بل أيضا نموذج يحتذى به سياسيا واقتصاديا لمن أراد أن يتقدم ويتطور من الدول النامية.