محمد أبوالفضل يكتب:
دبلوماسية القمم المصرية.. لا تكفي
حضر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مجموعة كبيرة من المؤتمرات وعقد العديد من القمم مع قادة وزعماء دول في القاهرة وغيرها من مدن العالم وعواصمه في الفترة الماضية، بما يؤكد مكانة بلاده على المستويين الإقليمي والدولي. هل أصبح هذا النوع من الدبلوماسية هدفا في حد ذاته؟ وهل حقق عوائد سياسية واقتصادية ملموسة؟ وهل يكفي لتأكيد مكانة مصر في الفضاءات التي تتحرك فيها؟
ترتبط الإجابة على هذه الأسئلة بنوعية المؤتمرات واللقاءات، وبالطبع النتائج التي تتمخض عنها وما وضعته في خزينة القاهرة، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها أولا، وطبيعة الدور الذي تلعبه، وماذا تريد في المستقبل المنظور.
لا تقتصر التحركات التي يقوم بها الرئيس السيسي على دائرة بعينها، فقد تكون الدوائر العربية والأفريقية وشرق البحر المتوسط والدولية من الظواهر اللافتة في التصورات المصرية، غير أن ترتيبها يتسم بالمرونة، وتتقدم أو تتأخر كل دائرة وفقا لمقتضيات السياسة الخارجية المصرية، والتي لم تعد متقيدة بما حدده الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في كتابه “فلسفة الثورة” في ثلاث دوائر: العربية والأفريقية والإسلامية.
لم تسقط الدائرة الإسلامية تماما من حسابات السيسي، لكنها صارت جزءا من السياق الذي تسير عليه سياسته حسب المعطيات وبصورة فردية تحددها المصالح مع كل دولة، فإن لم تكن هذه الدائرة جزءا من النسيجين العربي والأفريقي ربما تظهر الحاجة إليها في لحظة معينة دون وضع ثابت لها أو عنوان في المنظومة العامة للدولة.
الثقل التقليدي لمصر يتعزز بأداتين أو إحداهما، وهما الاستعداد للقيام بدور محوري وتحمّل تبعاته، والقدرة على تقديم مساعدات اقتصادية حقيقية
حصرت بعض وسائل الإعلام أهمية القمم والمؤتمرات في انعقادها وعدد اللقاءات الثنائية مع القادة، والتركيز على الحضور المعنوي الذي يمثله الرئيس السيسي في الداخل، وتجاهلت في أحيان كثيرة ما تنطوي عليه من أهداف مادية وما يتمخض عنها من نتائج وفوائد تجنيها القاهرة منها، ما يفقدها القيمة المطلوبة.
لم يحضر الرئيس المصري قمة أو شارك في مؤتمر إلا وكان هناك هدف أو أكثر معه، لكن هذا الأمر يظل غير معلوم ولا يتم الإعلان عنه، ما جعل بعض الاستنتاجات تقلل من أهمية التحركات وتضعها في بوتقة أقرب إلى جولات العلاقات العامة.
وذهبت استنتاجات أخرى إلى أن مردود القمم والمؤتمرات ظهر في خارطة العلاقات المصرية التي عندما تسلم السيسي الحكم قبل ثمانية أعوام كانت فقيرة وصعد بها إلى أن باتت العلاقات جيدة مع الشرق والغرب والشمال والجنوب، وحتى دول مثل قطر وتركيا والولايات المتحدة جرى معها تذويب الجليد الذي تراكم الفترة الماضية.
لا تقاس أهمية الدول بما تمتلكه من علاقات مع عدد كبير من الدول، لأن معيار الجودة يرتبط بما يتم جنيُه من ثمار سياسية واقتصادية وأمنية، ويمكن القول إن دبلوماسية القمم لعبت دورا مهما فيما جرى تحقيقه على هذه المستويات، وفي كل الأحوال يعد أقل من المطلوب قياسا على مكانة مصر الجيوسياسية في المنطقة.
إذا كان الهدف تطبيع العلاقات مع دول العالم فقد تحقق إلى حد بعيد، بينما القيام بدور مؤثر شيء مختلف، فمصر المهمة إقليميا من الصعوبة أن تستسلم لدور التابع، فإن لم تكن قائدة، يجب أن تكون في المقدمة وواحدة من الدول القائدة بالمنطقة وهي الميزة التي جعلتها محط أنظار الكثير من القوى على مدار العقود والقرون الماضية.
تحتاج مسألة الدور أكثر من المشاركة في قمم ومؤتمرات، لأن العبرة ليست بالكم هنا، فالكيف يحدد مكانة الدول وقدرتها على التأثير، وفي ظل تطورات متلاحقة وخرائط تتغير وتحولات في توجهات القوى من المهم أن تصبح الفاعلية عنصرا مركزيا في الحركة المصرية.
يتوقف ذلك على امتلاك رؤية واضحة لكل من الإقليم والعالم، وفي مصر ثمة مساحة غامضة تتجاوز عملية الرمادية السائدة في تصورات الدول في المراحل الانتقالية، فقد تكون القاهرة حاضرة وتمتلك تفاصيل عديدة، إلا أن الخط المحدد للتصرفات لا يزال غائما للمتابعين، وما لم تمتلك السياسة الخارجية رؤية معلومة لما تريده سوف تذهب النتائج المعنوية في القمم المختلفة أدراج الرياح.
مصر تنخرط في بعض الأزمات الإقليمية وتقترب منها وتشتبك معها ويظل دورها محدودا بسقف معين مهما بالغت في القمم
تنخرط مصر في بعض الأزمات الإقليمية وتقترب منها وتشتبك معها ويظل دورها محدودا بسقف معين مهما بالغت في القمم، حيث لا تصل الكثير من مقارباتها إلى المستوى الذي يؤكد أن هناك إرادة قوية على الفعل، ومعظم ما ظهر من ممارسات عند مواجهة بعض التحديات كان أشبه بردات فعل، في ليبيا وإثيوبيا ومع قطر وتركيا.
كل القضايا التي بدت القاهرة معنية بها مباشرة افتقرت فيها إلى روح المبادرة، وهي نقطة تقلل من قدرتها في القبض على المفاتيح الرئيسية، والتي تحتاج إلى إمكانيات مادية إلى جانب المعنوية، فتوافر الثانية لا يكفي لضمان التأثير المصري، لأن أحد أدوات السياسة الخارجية الآن يكمن في مستوى الوفرة المادية، أو العجز الاقتصادي، فكلاهما يمثل عنصر إضافة في التمدد أو يؤديان إلى الكبح والتراجع والانزواء.
تتجه الأنظار دوما نحو دول الوفرة المادية بعد أن صارت محددا في درجة التأثير عندما توجد الإرادة والرغبة في القيام بأدوار إقليمية، ولذلك تحولت قمة جدة أخيرا من قناة لتمرير مشروعات أميركية وإسرائيلية إلى وسيلة لتأكيد دور السعودية الإقليمي، لأن قيادتها بدت غير مستسلمة لما أراده الرئيس الأميركي جو بايدن.
يتعزز الثقل التقليدي لمصر بأداتين أو إحداهما، وهما الاستعداد للقيام بدور محوري وتحمّل تبعاته، والقدرة على تقديم مساعدات اقتصادية حقيقية، وتندرج المنح الطبية التي قدمتها القاهرة لبعض الدول وظهرت تجلياتها مع انتشار فايروس كورونا في إطار دبلوماسية العلاقات العامة، فإذا كانت مصر متلقيا كبيرا للمساعدات الاقتصادية بأنواعها المختلفة كيف تقدمها وتنتظر أن تجني ثمارا من ورائها؟
يتطلب الأمر قدرة عالية من الوضوح عندما يتعلق بالدور الإقليمي، فهناك فرق بين دولة تريد تحسين علاقاتها مع العالم وتنجح، وأخرى تريد أن تكون عنصرا فاعلا فيه أو في أحد جوانبه، فالأولى يمكن أن تصل إلى ما تصبو إليه من خلال حضور قمم والمشاركة في مؤتمرات، بينما الثانية من الضروري أن تكون ممسكة بزمام جملة من الملفات، لأن “العفي” كما قال الرئيس السيسي من قبل لا أحد يأكله لقمته (خبزه).
ليس شرطا أن يكون العفي أو القوي شرسا في الحرب بالمفهوم العسكري، فالشراسة اليوم تنوعت ألوانها، من بينها اللون المعني به هذا المقال، وهو التأثير في المحيط الإقليمي والقيام بالدور الذي يجعل الدولة رقما يحسب له ألف حساب، وهو ما يتناسب مع الطبيعة التي ظهرت عليها مصر منذ قديم الأزل.