د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

الحنين الى الماضي والذكريات الجميلة

جدة

كل واحد منا له ذكريات جميلة في حياته يستدعيها من ذاكرته وخاصة من زمان الصبا والشباب وقد أرسل لي صديقي وزميل دراستي السيد علوي الجفري شريطا بالفيديو سجلت فيه زيارتنا آل صالح بن فريد الى البلاد بعد الوحدة في التسعينيات ونحن في  ضيافة الشيخ سعيد بن أحمد الباراسي وكان بن سعد يروي لنا بعض الأحداث القديمة في المنطقة ، وقد حفزني ذلك للكتابة عن الأيام الخوالي والحنين  إلى أيام الطفولة والصبا والشباب وأصدقاء الزمن الجميل،  والعلاقات الاجتماعية القوية، إلى بساطة الحياة، والحنين إلى أنفسنا: شكلنا وملامحنا وأعمارنا وأحلامنا التي طوتها دفاتر الأيام والناس يتباينون في طريقة تقييمهم للماضي؛ فالبعض قد يراه جميلا، والبعض الآخر قد يجد في استرجاعه الألم والحرمان، كل تبعا لتجاربه الشخصية، إلا أن الحنين إلى الماضي له أساس سيكولوجي، يطلق عليه مصطلح  (الحنين إلى ماض مثالي)، والذي ابتكره طالب الطب يوهانس هوفر بعد أن لاحظ أن مجموعة من العمال المأجورين السويسريين المغتربين عن أوطانهم كانت تظهر عليهم أعراض مرضية مشتركة مثل: أرق وعدم انتظام ضربات القلب، وعسر هضم، وتبين فيما بعد أن من أهم أسبابها الشوق والحنين إلى أوطانهم ولا شك أن الحنين إلى الماضي بتفاصيله شيء جميل ويمدنا بسعادة وراحة، ولكن يكمن الخطورة في إدمان استرجاع ذكريات الماضي !!
الحنين للماضي  بأنه كان أجمل وأنقى وأكثر بساطة وعفوية
أتذكر أحد الأشخاص عندما قال بأن والده العجوز التسعيني تنهد في حسرةٍ موجهاً حديثه لإبنه: أغرف من الحياة قدر ما تستطيع، ما يتوفر لكم الآن لم يكن يخطر لنا في الأحلام، كنا نسير بلا أحذية من قريةٍ إلى قريةٍ أخرى، كانت الناس تموت دون أن نعرف سبباً لذلك لأنه لا يوجد أطبا ء ولا تشخيص ولا علاج، كانت الحلوى نادرة والطعام المتوفر من أبسط ما يكون، لم نكن نعرف معنى شراء الملابس والموضة وتسريح الشعر والعطور لم نعرف معنى شوارع وطرقات معبّدة وأرصفة وإشارات مرور، لم نعرف معنى التكييف الهوائي ومثل تلك الأشياء لا توجد إلا في عدن في ذلك الوقت ، كانت الدنيا عندنا  كلها تتمركز في ساحة القرية حيث بداية ونهاية العالم لنا !!
كذلك الحال في الحنين للمعلم في الماضي، للموظف، للتاجر، للجار، للصديق، للحارة، للقرية، فهؤلاء يتم تصويرهم بأنهم كانوا مثالاً في منظومة القيم التي يحملونها ويمارسون سلوكياتهم  ضمن محدداتها إن الزمن هو الزمن، والتغيّر يحدث للبشر مع تغيّر الأدوات والوسائل والنهج، لكن الحقيقة الراسخة أن التقدّم هو سمة الزمن، وأن الجمال شيء نسبي يضفيه البشر على المكان والزمان والمواقف والأشياء!!
وصدق من قال: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم ربما حياتنا في الوقت الحاضر ليست جيدة بالقدر الكافي، لكن بإمكاننا العودة إلى ممارسة النشاطات التي لطالما أحببناها وفضلناها، وتوطيد العلاقات الاجتماعية التي بتنا نشكو ضعفها برتراند راسل يقول في كتابه "الفوز بالسعادة: "السعادة ليست هروبا من الواقع ومآسيه إنما التحرر من تأثيره فينا وسيطرته علينا والسعادة هي في الحياة الواقعية لأن الإفراط في التفكير بمستقبلنا يهدم لذة الاستمتاع بحاضرنا".
علماء النفس وجدوا أن معظم العقلانيين هم الأكثر اطمئنانا، فالناس الذين يفهمون الأشياء ومن أجمل ما قال إبراهيم الفقي: (إن كل يوم تعيشه هو نعمة من الله فلا تضيعه بالقلق من المستقبل أو الحسرة على الماضي). ربما حياتنا في الوقت الحاضر ليست جيدة بالقدر الكافي، لكن بإمكاننا العودة إلى ممارسة النشاطات التي لطالما أحببناها (إن الحياة ممتلئة جدا للدرجة التي لن تكون في يوم من الأيام أحطت فيها ولو بمجال واحد فقط، وأعمارنا قصيرة جدا على هذه الحياة المليئة بالجمال). إذن ما قصة الحنين إلى الماضي؟ ما قصة التشبث بالأيام التي ذهبت  ولن تعود؟ ماذا كان في تلك الأيام لنسميها «الزمن الجميل»؟ وإذا تابعنا كلام كل جيل عن أيام طفولتهم وشبابهم فسنجد هذا الزمن الجميل مرتبطا بالماضي، بينما لا يرونه جميلاً عندما يعيشونه !!
ماذا كان في تلك الأيام سوى الفقر والأمية والتخلف؟ كيف يحن إنسان إلى أيام مواقد الحطب التي تملأ البيت دخاناً، والأمراض التي تفتك بالناس دون أن يجدوا دواء، وتعلم «القراءة» الذي كان حلما لا يقدر على تحقيقه إلا قلة ، ووسائل الإضاءة قديما كان أغلب الناس يتسامرون على ضوء الفوانيس ولا يقدرون على شراء الأتاريك الحديثة القوية الإضاءة !!
تزداد الحياة تعقيداً يوماً بعد يوم، وندفع قيمنا وعلاقاتنا الاجتماعية وهويتنا وأصالتنا ثمناً لما نحقق من تقدم، يبكي كل جيل على زمن طفولته وشبابه.. ويراه «الزمن الجميل» والمخيف أكثر أن نتصور المستقبل- عندما سيبكي أبناء الأجيال الحالية على هذه الأيام الحاضرة لأن هذا يعني أن المستقبل الذي سيكون أفضل من الآن علمياً وتكنولوجياً، سيكون أسوأ بكثير فيما يتعلق بالهوية والأصالة والقيم. ولذا نحن بحاجة ماسة إلى أن نطوّع التقدم لا أن نكون تابعين له، وأن نتمسك بالثوابت، لا أن نترك أنفسنا كقشة في مهب الريح.

د . علوي عمر بن فريد