خير الله خير الله يكتب:

الخبز قبل الغاز... في لبنان

بيروت

لن تنفع التهديدات التي اطلقها أخيرا الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في شيء. قبل أن يهدّد نصرالله إسرائيل، ويعتبر نفسه المدافع عن لبنان وثرواته، هل يستطيع سؤال نفسه لماذا عمل حزبه، الذي ليس سوى لواء في "الحرس الثوري" الإيراني، كلّ ما يستطيع عمله من اجل تحويل لبنان إلى بلد فقير يبحث فيه المواطن عن رغيف الخبز. يريد اللبناني رغيف الخبز قبل الغاز الذي ليس ما يؤكّد وجوده. اكثر من ذلك، يعرف اللبناني العادي أن الغاز ليس في متناول الي وأنّ بلده في حاجة إلى سنوات طويلة، في حال اكتشاف حقوق للغاز قبالة شواطئه كي يتمكن من الإستفادة من هذه المادة.

لعلّ اكثر ما يعرفه اللبناني أنّه بعد أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة... لنقل بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة، ستباشر إسرائيل استخراج الغاز من حقل كاريش لنقله إلى أوروبا. يحصل ذلك في سياق تفاهمات مع غير دولة من دول المنطقة، بينها مصر، وبوجود غطاء أوروبي وآخر وأميركي يعبّران بوضوح، ليس بعده وضوح، عن التغييرات التي شهدها العالم في ضوء الغزو الروسي لبلد أوروبي اسمه أوكرانيا.

تستخرج إسرائيل الغاز منذ فترة من حقول أخرى بعيدة عن المياه اللبنانيّة في ظلّ زيادة الحاجة العالميّة إلى الطاقة وإصرار أوروبي على التخلص تدريجا من الإعتماد على الغاز الروسي.

صار الغاز الإسرائيلي جزءا من الأمن الأوروبي في وقت لم يعد في أوروبا من يريد السماع بروسيا وغازها ما دام على رأسها فلاديمير بوتين. لم تعد من ثقة بالرئيس الروسي الغارق في الوحول الأوكرانيّة والذي لم يترك امامه سوى باب التصعيد العسكري والسياسي.

ستصدّر إسرائيل مزيدا من الغاز إلى أوروبا بعد ان يصبح حقل كاريش جاهزا. في المقابل، سيبقى لبنان يتفرّج على ما يدور في مكان قريب منه وفي المنطقة والعالم. سيلهي لبنان نفسه بالقشور والكلام عن العزّة والكرامة واهمّية "المقاومة" ومسيّراتها في سياق عملية تهجير ممنهجة للمواطن اللبناني، خصوصا للمسيحي. سيظلّ حسن نصرالله يهدّد وسيظلّ في لبنان من يردّد شعارات تغني عن مواجهة الواقع والحقيقة المؤلمة المتمثلة في سقوط بلد عن بكرة ابيه وإفقار شعبه في كلّ مجال من المجالات بدءا بسرقة ودائع المواطنين في المصارف... وصولا إلى البحث عن رغيف الخبز والكهرباء مرورا بالقضاء على بيروت ودورها وتدمير النظامين التعليمي والإستشفائي.

سيبقى الأمين العام لـ"حزب الله" يطلق التهديدات التي تشمل منع إسرائيل من استخراج الغاز الذي في حقولها. كلّ ما فعله، أو سيفعله، يتمثّل في تحقيق مزيد من الإنتصارات على لبنان واللبنانيين. سيبقى لبنان عاجزا عن القيام بايّ خطوة تستهدف الإستفادة من ثرواته في البحر. سيتكرس في كلّ يوم واقع أليم تختزله رغبة ايران في فرض هيمنتها على البلد وتحويله إلى ورقة من اوراقها في التفاوض مع اميركا.

ينهار لبنان يوميا اكثر. نحن امام مشهد لبلد بائس يدمر نفسه بنفسه في غياب من يستطيع منعه من ذلك. حاول العالم مساعدة لبنان، ولكن من دون نتيجة. ليس ما يدلّ على العزلة اللبنانيّة اكثر من انكفاء الدولة على ذاتها. ليست لدى الثنائي الرئاسي (ميشال عون – جبران باسيل) أي رغبة في تشكيل حكومة جديدة. يريد الثنائي فرض شروطه على رئيس الوزراء المكلّف نجيب ميقاتي في وقت لدى ميقاتي حسابات أخرى تختلف كلّيا عن حسابات ميشال عون وجبران باسيل اللذين لا يستطيعان تصوّر انّهما جزء من الماضي وانّ عليهما مغادرة قصر بعبدا في آخر تشرين الأوّل – أكتوبر المقبل.

في وقت تبدو إسرائيل، مدعومة من المجتمع الدولي، مصرّة على استغلال الغاز في كاريش وغير كاريش، يبدو لبنان مصرّا على الإستمرار في اتباع سياسة منطق اللامنطق التي تعني البقاء في الحضن الإيراني. ليس من قوّة، أقلّه في المدى المنظور، تستطيع إخراجه من هذا الوضع الذي تعني إصرارا على الإنتحار ولا شيء غير ذلك.

لا تفيد التهديدات التي يطلقها "حزب الله" في شيء باستثناء أنّها تشكل دليلا على مدى الجهل بما يدور في المنطقة والعالم. هل يعتبر لبنان نفسه جزءا من المنطقة وما يدور فيها أم أنّه حالة منعزلة مرتبطة بمشروع توسّعي إيراني لا افق له، لا سياسيا ولا حضاريا ولا إقتصاديا؟

يتضح من الخطاب الأخير لحسن نصرالله انّ ليس مطلوبا سوى تحقيق مزيد من الإنتصارات الإيرانيّة على لبنان وإبقاء موضوع ترسيم الحدود مع اسرائيل معلّقا. ليس مطلوبا من لبنان اكثر من ان يكون متفرّجا على استخراج الغاز من كاريش فيما هو غارق في أزمات لا تنتهي. تجعل هذه الأزمات العبثية المتلاحقة اقصى طموح للمواطن اللبناني العيش في ما يشبه نظام "الإمارة الإسلاميّة" على طريقة "طالبان" الذي فرضته "حماس" في قطاع غزّة منذ منتصف العام 2007 أو دويلة الحوثيين في اليمن الشمالي التي عاصمتها مدينة عريقة مثل صنعاء منذ أيلول – سبتمبر 2014... أو المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات "الحشد الشعبي" في العراق منذ ما يزيد على عشر سنوات.

قبل التفكير في الغاز وفي الثروة الغازيّة، يتوجب على لبنان التصالح مع نفسه. يكون ذلك عن طريق طرح أسئلة ساذجة من نوع: لماذا تلك القطيعة بين لبنان وأهل الخليج ومن تسبب بهذه القطيعة؟

الجواب الصريح أنّ لبنان قرّر مقاطعة الخليج بعدما صار "حزب الله" في السلطة وبعدما صار الحزب يقرّر من هو رئيس الجمهوريّة المسيحي ومن هو رئيس الوزراء السنّي. لبنان تحت الاحتلال الإيراني، استطاع استخراج الغاز ام لم يستطع. أولويّة "حزب الله" ومن خلفه ايران لإخضاع لبنان وليس لجعله صاحب ثروة مصدرها الغاز أو النمو الاقتصادي الطبيعي لبلد يتمتع بمؤهلات كثيرة. الأولويّة لإفقار لبنان واللبنانيين ولبنان الذي بات ينتمي إلى ثقافة بائسة جعلت منه يدخل مرحلة الموت البطيء.