نديم قطيش يكتب:
ما تقوله لنا حادثة طعن سلمان رشدي
مجدداً، تضعنا حادثة الاعتداء على الروائي البريطاني من أصل هندي، سلمان رشدي، أمام ثنائية الإرهابين «السني» و«الشيعي»، وازدواجية المقاربة السياسية الليبرالية الأميركية حيالهما. ليس مهماً الآن ما إذا كان هادي مطر، المُهاجم الشيعي، على اتصال بـ«الحرس الثوري» الإيراني قبل الهجوم، كما تفيد بعض التسريبات الأمنية الأميركية لعدد من وسائل الإعلام المرموقة. وقد لا نعرف ما إذا كان قرار الهجوم قد وصل إلى مطر تصريحاً أو إيحاءً، أو تصرف الشاب مدفوعاً بقناعته الدينية بأنه ملزم بتنفيذ الفتوى الصادرة عن الخميني بإهدار دم رشدي عام 1989، بعد صدور كتابه «آيات شيطانية».
إن ترك مثل هذا التقصي للقضاء ضروري، درءاً لتسييس قرينة البراءة الذي تفوح رائحته من طلائع ردات الفعل الأميركية السياسية، المسرعة للقول إن لا دليل على تورط «الحرس الثوري» الإيراني في الهجوم!
فالمسألة هنا تتجاوز -ويجب أن تتجاوز- الدور التقني، أو غيابه، لأداة من أدوات النظام الإيراني في الاعتداء، إلى أصل الموضوع، وهو فتوى الخميني بحق رشدي، باعتبارها خلاصة الموقع الإشكالي للنظام الإيراني برمته في العالم. الفتوى، بما هي إجازة قتل عابرة للحدود، لا تشكل اعتداءً على الحرية وحسب؛ بل على النظام الدولي برمته، من خلال تصدير أوامر القتل والاغتيال، كامتداد موضوعي لفكرة تصدير الثورة، بوصفها الملمح الأبرز في شخصية النظام الإيراني.
يضعنا ذلك أمام حقيقة النظام الإيراني كنظام يقوم على «أممية فقه الجريمة»، كمادة تعبوية ضد أعدائه الآيديولوجيين ومادة صراعية معهم، ويتميز بثراء الأدوات المتوفرة لتنفيذ مآربه. ومن هذه الأدوات، الاستغلال المحترف لجيل جديد من الإرهابيين المحتملين المقيمين في الغرب، ممن يعانون من تصدعات في الهوية، كما هي حال مهدي مطر الذي صرحت أمه بأنه ثار عليها لأنها لم تعمل على تنشئته دينياً، ولم تعرفه على طريق الإسلام (الشيعي) قبل أن يبدأ هو رحلة البحث الخاصة به.
وعليه، فإن التلهي كل مرة بافتراض نوازع فردية خلف أي حادث إجرامي، كمحاولة قتل رشدي، أو قبله رفيق الحريري (لا يمكن اغتياله من دون فتوى)، والقفز فوق بصمات «الحرس الثوري» أو «فيلق القدس» أو غيره، هو سقوط متكرر في أفخاخ إيران التي تقوم كل حصانتها على الاحتماء من تبعات القانون وصلاحياته المكانية والزمانية، بتحركها الدائم خارج مساحات القانون الوضعي المتعارف عليه في العالم. تتحرك إيران في عالم من الفقه والغيب والسحر والإيحاء والإلهام الذي تُجمله فكرة «الثورة الخمينية»، بما يربك عوالم القانون الذي تتحرك فيه الدول الطبيعية، ويحد من سلطانه وسلطانها. فأن تلهم الفتوى الخمينية هادي مطر هو ما لا قدرة للقانون عليه ما لم تتوفر أدلة دامغة على تحريض أو اشتراك في القتل.
مع ذلك، تكاد تكون الأدلة الظرفية، في كل حادث، كافية لتكوين رأي سياسي صلب حول المسؤولية الإيرانية المباشرة عنه.
أولاً -كما يشير المؤرخ الشاب الأميركي من أصول إيرانية، أفشون أوستوفار، مؤلف كتاب «طليعة الإمام»- فإن «الحرس الثوري» الإيراني «منظمة عالية الاحتراف والتراتبية، ويأتمر مباشرة من المرشد، ما يعني أن أي عملية خارج إيران تسبقها الموافقة من أعلى مستويات النظام الإيراني. أفعال (الحرس الثوري) الإيراني هي أفعال إيران». ويضيف أوستوفار: «الاغتيالات ليست نوعاً من العمليات التي يمكن لأعضاء (الحرس) الانخراط فيها لتحقيق أهدافهم الشخصية. الاغتيال عمل جاد، وعندما يريد النظام قتل أناس في الخارج فهو يقوم بذلك عمداً». وبالفعل لم تطل الفتوى رشدي وحده، ففي عام 1991 قُتل الياباني هيتوشي إيغاراشي الذي ترجم الرواية طعناً، بينما نجا مترجم إيطالي للرواية من هجوم بسكين. وفي عام 1993، تم إطلاق النار على ناشر الكتاب النرويجي ثلاث مرات ونجا، حسبما أفادت وكالة «أسوشييتد برس». يدل ذلك على مستوى الجدية التي تتمتع بها الفتوى وموضوعها، ومتابعة تنفيذها.
ثانياً، لن يصعب العثور على تبنٍ إيراني، لحادثة الطعن قبل وقوعها. فقبل الحادثة بنحو عام كان سبق أن نصح الجنرال إسماعيل قاآني، قائد «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري»، الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب ووزير الخارجية مايك بومبيو بالنظر إلى مصير الكاتب البريطاني الهندي «كمثال لما ستكون عليه حياتهم من الآن فصاعداً»، مضيفاً أنَّ «هزيمة المسؤولين عن اغتيال قاسم سليماني قد بدأت بالفعل».بهذه البساطة، يدمج قاآني بين مقاصد الدولة الإيرانية التي تريد الانتقام السياسي من واشنطن، وبين مقاصد مهاجم رشدي الذي يراد أن يبدو رد فعله عملاً منفرداً لا يحمل دليلاً على تورط عملي لجهاز من أجهزة الدولة الإيرانية. ويمر هذا الدمج في الإعلام الأميركي بوصفه إفرازاً من إفرازات الدعاية السياسية لا أكثر، وليس دليلاً على نية أو فعل جرميين عند صاحب القول ومن يمثل.
ثالثاً، لم تُشِح الأدوات الإيرانية الإعلامية وغير الإعلامية بوجهها عن الحادث. فقد احتفل بها الإعلام الإيراني الذي كان قد سبقه تحريض من شخصيات مثل الأمين العام لميليشيا «حزب الله» حسن نصر الله، يحث المؤمنين على تنفيذ فتوى الإمام، ويصدف أن نفذها لبناني من الموالين له!
بعد اغتيال العقيد في «الحرس الثوري» حسن صياد خدايي في طهران الذي ألقي باللوم فيه على «الموساد»، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بنيت: «على مدى عقود، مارس النظام الإيراني الإرهاب ضد إسرائيل والمنطقة عن طريق الوكلاء والمبعوثين؛ لكن رأس الأخطبوط، إيران نفسها، يتمتع بالحصانة». وأضاف: «كما قلنا من قبل، انتهى عصر حصانة النظام الإيراني، وهؤلاء الذين يمولون الإرهابيين ويسلحون الإرهابيين ويرسلون الإرهابيين سيدفعون الثمن بالكامل».
قد يكون هذا أهم تطور في السلوك السياسي تجاه إيران منذ عام 1979. لكن تبقى الحصانة الأهم هي حصانة إيران الناتجة عن انتحال صفة الدولة، والتصرف دائماً كتنظيم إرهابي عابر للحدود.
حادثة سلمان رشدي هي جرس إنذار لفهم سلوك نظام الخميني من هذه الزاوية.