علي الصراف يكتب:
الإسلام؟ "إنه ليس كذلك"، حكاية لما بعد سلمان رشدي
ليس انتصارا للإسلام أن يُقتل سلمان رشدي. الجرائم التي تُرتكب ضد الإسلام كثيرة ومتنوعة ويومية وفي كل مكان، إلى درجة تدفع إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل اختيار واحدة منها، وكأنها هي المعركة. هذا وهم. وهو جسيم لأنه يدفع معركة الدفاع عن الإسلام في الاتجاه الذي يخدم ثقافة الجريمة.
تحويل سلمان رشدي إلى شهيد، كثير عليه. ولقد تحوّل، بفضل كل ما أحيط بآياته الشيطانية من اهتمام ودعوات انتقام، إلى شهيد – حي. بقاؤه على قيد الحياة، كان بحد ذاته جزءا من صنعة العداء ضد الإسلام؛ صنعة الترويج لفكرة أن الإسلام هو جريمة ضد الفكر والأدب والفن والحريات. هذه الفكرة هي التي تنتصر كل يوم، وتدفع الكثيرين، بقول أو من دون قول، إلى النظر إلى المسلمين على أنهم مشكلة أمنية وعلى أنهم تهديد وتحد للقيم الإنسانية.
صحيح تماما أن النقاش التي تثيره أبشع الجرائم، مثل 11 سبتمبر في العام 2001، يمكن أن يأتي بنتائج عرضية من قبيل أن يزداد عدد المسلمين في العالم، وأن يشكل الأمر حافزا لمعرفة المزيد عنه. ولكن الحقيقة هي أن هذه النتائج بالذات، هي ثمرة المعرفة الصحيحة بالإسلام؛ ثمرة الدهشة من اكتشاف “أنه ليس كذلك”.
لا أحد أصبح مسلما جديدا في الغرب لأنه اكتشف عدالة السلوك الهمجي في جريمة 11 سبتمبر. ولا أحد أصبح مسلما لأنه اعتقد بصواب فتوى الخميني بقتل سلمان رشدي. ولكن هناك الكثيرون ممن أصبحوا مسلمين، بمجرد اكتشاف المفارقة بين صورتين مختلفتين للإسلام. واحدة للجريمة، والأخرى لعكسها تماما.
العالم يتغير مع كل يوم ومع هذا التغير تنشأ معايير مختلفة للعلاقات الإنسانية والفردية وأصبحت هي الأيقونة الرئيسية والمركز في هذه العلاقات حيث لم تعد الأحكام ذات الطبيعة الجامعة صالحة للحكم
كان ذاك الخميني نفسه أصدر فتوى أدت إلى تصفية أكثر من 30 ألف سجين، لمجرد أنهم يحملون فكرا آخر. لقد نظر إليهم على أنهم كفرة. بالضبط كما نظر إلى رشدي. نجح في سفك دماء الثلاثين ألفا، وما يزال، وهو في قبره، ينتظر سفك دم رشدي. العالم نسي الثلاثين ألفا، وبقي يتذكر ويحمي رشدي.
تلك الفتوى كانت تجسيدا لطبيعة شخص مهووس بالقتل، ودفعه جنونه إلى خوض حرب ضد العراق أدت إلى مقتل أكثر من مليون ونصف مليون إنسان من الطرفين. ولكنها كانت تجسيدا لمرض عقلي أصاب الفقه الإسلامي منذ أن تجرد إلى خلاصات حاكمة، تجردت بدورها من القيم التي جعلت من الإسلام إسلاما. الذين تصيبهم الدهشة من “إنه ليس كذلك”، يكتشفون الإسلام من زاوية هذه القيم، بينما الذين يغذون ثقافة القتل، في المواجهات الفكرية، يصدرون فقط عن تلك الخلاصات التي ظلت تحكم السلوك الفقهي “الشرعي”.
كثيرٌ على رسامين تافهين في “شارلي إيبدو” أن يتحولوا إلى أبطال أكثر أهمية من بيكاسو. لقد حاولوا إهانة الرسول محمد (ص)، ولكن هذا الرسول الكريم تعرّض، وهو بين أهله، إلى كل أنواع التجريح والإهانات، بما في ذلك الضرب بالحجارة، ولكنه لم ينتصر لنفسه ولدينه بالانتقام. انتصر بالتسامح والمغفرة. هند بنت عتبة، زوجة أبي سفيان، أكلت من كبد حمزة عم النبي. ولكن بيتها أصبح آمنا لكل مَنْ يلجأ إليه. في معركة أحد، وقع الرسول في حفرة نصبها أحد المشركين. تكسرت الخوذة على رأسه، وانغرست أجزاء منها في وجهه وزاده سحبها نزفا. اقتلعها أبو عبيدة عامر بن الجراح بأسنانه حتى صار أهتم. فلما رفع الرسول يديه إلى السماء، أخذ أبا بكر الصديق (رض) الظنُ أنه سيدعو على أمته، إلا أنه قال، والدم يغمر وجهه: “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون”.
ما كان بوسع الإسلام أن ينتصر في بيئة شديدة العداء، إلا بالحِلْم. إلا بالتسامح والصبر والمغفرة.
تثير الفتاوى المجردة من القيم تناقضات مع نفسها. “فالزانية، تقتل”. هذا تشريع مجرد. ولكن زانية أطعمت كلبا جائعا دخلت الجنة. هذا تشريع آخر ولكن تغمره القيم. الأمر نفسه ينطبق على الكفر والإلحاد. ثمة فرصة، يمكن أن تدوم إلى آخر يوم في حياة الإنسان ليستدرك، أو يكتشف الغامض الجليّ في نفسه. سأل أحدهم آخر: “وما غرك بربك الكريم..”، قال “غرني به رحمته”.
المسلمون، هم الذين يحتاجون أن يُعيدوا اكتشاف الإسلام. هم الذين يتعين أن تصيبهم الدهشة، من "أنه ليس كذلك"
هناك صورة للإسلام، تجعل اكتشافه شيئا مدهشا. “إنه ليس كذلك” بالفعل. ليس بالقتل، ولكن بالحِلْمِ.
لقد صنعت فتوى الخميني بطلا، تلتف من حوله كل وسائل الدعاية والتحريض ضد الإسلام، لنحو ربع قرن. ولقد كان من الممكن أن تأتي جريمة طعنه على حياته، إلا أنه أنقذ كما لا يُنقذ البشر الآخرون. لقد أصبح سلعة مربحة، وكلما طال بها الأمد، كلما تغذت أكثر الصورة التي تقدم الإسلام كدين للوحشية.
ولئن كان يجدر بمعايير الرعاية أن تُنقذ كل إنسان على النحو نفسه، فإن إنقاذ رشدي، كان هو الشيء الصحيح، لأنه يتوافق مع هذه المعايير، حتى وإن لم تنطبق على الجميع. يستحق هذا الرجل أن يعيش أطول ما يمكن، ليس من أجل أن يكون سلعة، ولكنْ، لأن الحياة هبة، وهبها له خالقه. وهبها له من أراد له أن يكون ما يكون. إنها حق مسبق، وفقا لتقدير مسبق. وليس لأحد أن يسلبه عنوة، بناء على فتوى هي نفسها جريمة. هي نفسها تعبير عن اختلال عقلي. هي نفسها مرض يُظهر الإسلام بصورة لا تتوافق مع طبيعته.
العالم يتغير مع كل يوم. ومع هذا التغير تنشأ معايير مختلفة للعلاقات الإنسانية. والفردية أصبحت هي الأيقونة الرئيسية في هذه العلاقات. هي المركز. لم تعد الأحكام ذات الطبيعة الجامعة صالحة للحكم. لا توجد شعوب كافرة. لم يعد العالم ينقسم إلى “فسطاطين” واحد للإيمان والآخر للكفر. هذا التقسيم بات هراء مطلقا. في “فسطاط الكفر” هناك الملايين من المؤمنين، وفي “فسطاط الإيمان” هناك الملايين من الكفرة. حتى بالمعنى الضيق للكلمة، حيث يبدو “الفسطاط” هو المجموعة الصغيرة من البشر، لم يعد هذا التقسيم جديرا بالأهلية للحكم على النفس البشرية.
والإسلام، هو دين الفردية المطلقة. الفردية القصوى. إنه دين علاقة شخصية يقيمها الإنسان مع ربه، في ضوء نهار أو حلكة ليل. وسواء شاء، أن يستقي منها ما يسقي به علاقته بالآخرين أم لا، فهذا شأنه. إنه شأن تصوراته وقناعاته ورضاه. وفي النهاية فـ”كلهم آتيه يوم القيامة فردا”.
المسلمون، هم الذين يحتاجون أن يُعيدوا اكتشاف الإسلام. هم الذين يتعين أن تصيبهم الدهشة، من “أنه ليس كذلك”.
ولكن، هل تعرف لماذا؟ لأن صورته المشوهة هي التي أصبحت الصورة السائدة. أهل الفتاوى الجرائمية هم الذين غذوا السلعة وحوّلوها إلى سوق رائجة.