فيصل اليافعي يكتب:
ماكرون يقدم للجزائريين نسخا متعددة من الحقيقة
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مغرم بالعبارات الرنانة. حيث قال إن أوروبا دخلت حقبة جديدة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. وكان قد أعلن عن حقبة جديدة في العلاقات الفرنسية مع مستعمرات فرنسا السابقة في أفريقيا بعد أن أصبح رئيسا. وأعلن عن حقبة جديدة أخرى في الجزائر، الأسبوع الماضي، مع عهد يتّسم بـ”ديناميكية لا رجعة فيها” لتطوير العلاقات بين البلدين.
لكن المشكلة في الحقبة الجديدة هي أن قدومها يتطلب إنهاء الحقبة السابقة. بينما لم تحسم فرنسا أشباح إمبراطوريتها بشكل كامل بعد في الجزائر.
بعد ستين عاما من افتكاك الجزائر استقلالها من باريس، لا يوجد اتفاق على سرد حقيقي لما حدث. ولم يحاول ماكرون أثناء وجوده في مدينة وهران حتى تقديم اعتذار رسمي عن الجرائم التاريخية، وقال بدلا من ذلك إنه يريد “الحقيقة والاعتراف”. لكن حقيقة من؟ ماكرون لا يقدم سوى نسخ متعددة من حقيقة الحقبة السابقة.
ويعدّ ماكرون أول رئيس فرنسي يولد بعد استقلال الجزائر، أي أن الأحداث الصادمة لا تؤثر عليه. لكن عليه التعامل مع التداعيات السياسية لما يقوله ويفعله.
بالنسبة إلى الفرنسيين، لا تزال الجزائر تحتفظ بنفوذ هائل في المخيال السياسي. وربما يصل هذا إلى درجة تعادل مكانة الهند وباكستان في المملكة المتحدة، أو أيرلندا في الولايات المتحدة. وكانت حرب الاستقلال وحشية وكلفت مئات الآلاف من الأرواح في أيامها الأخيرة سنة 1962. ولم تكن فرنسا راغبة في استقلال الجزائر، حيث اعتبرت البلاد جزءا منها؛ وقد كانت كذلك من الناحية القانونية، مثلها مثل ليون أو بوردو.
استقلال الجزائر خلّف تداعيات زلزالية ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا. وكانت الهجرة من التداعيات الأكثر وضوحا، حيث بنى الجزائريون وأحفادهم وطنا لهم في فرنسا. لكنّ المستوطنين الفرنسيين والأوروبيين الذين عاشوا في الجزائر كانوا الأكثر إثارة للجدل. ومع اندلاع حرب التحرير في 1954، كان هناك أكثر من مليون منهم يقيم في الجزائر، أي أكثر من 10 في المئة من سكان البلاد. وقد عادوا إلى ديارهم بعد الاستقلال.
لكن فرنسا التي عادوا إليها لم تكن تريدهم، ورأت فيهم إما مستفيدين من إمبراطورية استعمارية متداعية أو لاجئين غير مرغوب فيهم. واشتد استياؤهم على مدى عقود وأصبحوا جزءا من الهيكل السياسي. وهذا ما يشكل خلفية لعملية التوازن الدقيق التي يتّبعها ماكرون.
“الأقدام السوداء” دائرة انتخابية سياسية غير معروفة في معظم الغرب. وهم مجموعة من الأشخاص الذين استفادوا من الاستعمار وما زالوا، بعد عقود، يؤكدون أنهم ضحاياه.
وتظل هزيمة فرنسا في الجزائر ذاكرة سياسية حيّة. وقد أثار الحنين إلى تلك الفترة الكثير من الناخبين في أقصى اليمين. وحاول ماكرون استمالة أصواتهم في مطلع السنة الحالية والفترة التي تسبق الانتخابات الفرنسية من خلال الاعتراف بمعاناتهم مما أثار غضب الجزائريين الفرنسيين.
وهذه هي مشكلة نهج ماكرون، الذي يفترض وجود حقائق متعددة ممكنة حول تلك الفترة وأن إيصال الرسائل المستساغة بشكل مجزأ إلى هذه المجموعات سيمكن من تجاوز التاريخ بطريقة ما. فهو يعترف بمعاناة الأقدام السوداء ويعتذر عن وحشية الاحتلال للجزائريين الفرنسيين.
وتحدث ماكرون مؤخرا إلى الجزائريين عن المصالحة آملا في طي الصفحة. وقد يكون هذا النوع من الرسائل مقبولا على المدى القصير، لكن ما ينقص هو تسوية صادقة للجرائم التاريخية، وهو ما يسمّم العلاقات من الناحية السياسية ولا يمكن تحقيقه في الوقت الحالي.
وقد يكون التوفيق بين هذه الرؤى التاريخية المتعددة مستحيلا في الواقع.
ونذكر أن الحديث العام في البلدان الأخرى التي تعاملت مع تركة الاستعمار الطويل يدور عادة حول كيفية التعامل مع الإرث، وليس عما إذا كان هذا الإرث بالفعل سلبيا. وتتداخل هذه النقاشات العامة (في بريطانيا وبلجيكا وأماكن أخرى) أيضا مع محادثة أوسع، مدفوعة بتجارب الأميركيين الأفارقة حول إرث العبودية.
عقود من الخلافات السياسية في فرنسا لم تسفر عن رواية يمكن للجميع التعايش معها. وللسكان الجزائريين والمسلمين في فرنسا، والأقدام السوداء، وأولئك الموجودين في الجزائر نفسها، وجهات نظر متباينة حول حرب الاستقلال. ويأمل ماكرون في أن تؤدي رقصته السياسية إلى إنهاء القضية وتفصيل علاقة جديدة مع الجزائر.
ولكن، المشكلة هي أن الجزائر قد لا تنتظر. وهي تبتعد بثبات عن مدار فرنسا مثل العديد من المستعمرات والمحميات الفرنسية السابقة.
وأعلن الرئيس الجزائري خلال الصيف الحالي أنه سيتم تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية ابتداء من الخريف المقبل. ويُعتبر تعليم الأطفال باللغة الإنجليزية بدلا من الفرنسية مثيرا للجدل إلى حد كبير، مع إسقاط محاولة مماثلة قبل 30 سنة بعد احتجاجات.
الزمن مختلف تماما الآن، وأصبحت الإنجليزية لغة مشتركة للأعمال التجارية العالمية ولغة التدريس في الجامعات الجزائرية للطب والهندسة. ويجعل هذا الخلاف مع تاريخ فرنسا ونهج ماكرون الجزئي صعبا للغاية. وقد لا يكون جل الجزائريين على استعداد للاستماع عندما يحل الوقت لحساب بمتأنٍ وطويل ويتمكن زعيم فرنسي أخيرا من الاعتذار.