فيصل اليافعي يكتب:
زيارة الكاظمي لإيران تؤكد دوره كوسيط في الشرق الأوسط
عندما التقى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي آخر مرة بإبراهيم رئيسي في شهر فبراير الماضي، كان رجل الدين رئيسي يحتل مركز رئيس القضاء الإيراني ولم يكن يعرف ما إذا كان سيوافق عليه لخوض انتخابات شهر يونيو أم لا. والآن يحتل رئيسي منصب الرئيس في إيران بينما يشوب المستقبل السياسي للكاظمي شيء من الغموض. وكانت زيارة الكاظمي في الثاني عشر من سبتمبر هي الأولى لزعيم أجنبي منذ أن أدى رئيسي اليمين الشهر الماضي. لكن عنصر الرمزية يتجاوز ذلك، حيث أمضى رئيس الوزراء العراقي الأشهر القليلة الماضية في الترويج لنفسه باعتباره حلقة الوصل بين الجميع. وقد أكد مكانته باعتباره وسيط الشرق الأوسط كونه أول من يتحدث إلى الرئيس الإيراني المنتخب حديثا. فإذا أراد الرئيس الإيراني الجديد الحديث مع العرب فعليه الاتصال بالكاظمي أولا.
وكانت زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى إيران عبارة عن متابعة لما يبدو وكأنه انقلاب في السياسة الخارجية للكاظمي فيما كان يمكن أن يكون أسابيعه الأخيرة في منصبه، وهو مؤتمر دولي عقده في نهاية شهر أغسطس في مدينة بغداد، ونجحت تلك القمة في الجمع بين قادة الشرق الأوسط الذين تتراوح نمط علاقاتهم ما بين الفاترة إلى الملتهبة.
وحضر ذلك المؤتمر وزيرا خارجية السعودية وإيران، وقام الكاظمي بترتيب اجتماع رفيع المستوى بين الإمارات وقطر، وهو الأول من نوعه منذ أن قُطعت العلاقات بينهما قبل أربع سنوات، حيث التقى الشيخ محمد بن راشد مع الشيخ تميم بن حمد، كما التقى الشيخ تميم مع الرئيس المصري في أول لقاء يجمعهما منذ سنوات.
لا يكفي لدولة مثل العراق أن تلعب دور الوساطة، كونها دولة محورية، ومحاطة بست دول، حيث يحتاج القادة أيضا إلى القدرة على التأثير بفعالية في رسم السياسات خارج حدودهم
كما أشارت التقارير إلى أن وزير خارجية إيران ربما التقى ببعض وزراء خارجية دول الخليج، لكن ليس مع وزير الخارجية السعودي، وقد تم بناء الكثير من العلاقات خلال عطلة نهاية الأسبوع.
لكن تصميم الكاظمي على مد جسور التواصل مع كل الجهات لا يقتصر على الصعيد الدبلوماسي فحسب، فقد وقع صفقة مع لبنان لمقايضة النفط بالسلع والخدمات، ويبدو أنه أعطى الضوء الأخضر للقوات التركية لشن هجمات ضد حزب العمال الكردستاني على الأراضي العراقية، وهو تنازل مهم من طرفه مقابل تحسين العلاقات مع تركيا (والعلاقات بين البلدين لا تزال في طور التحسن، حيث رفض الرئيس التركي حضور القمة).
كل هذا يعني أن الكاظمي يمكنه أن يتباهى بربط علاقات مقبولة مع جميع الدول القوية في المنطقة، متجاوزا الخطوط الفاصلة العديدة التي تقسم الشرق الأوسط.
ومع ذلك، فإن هذه المهمة، أي التعامل مع كافة الأطراف وفي نفس الوقت لها كلفة باهظة، وقد تهدد مستقبل الكاظمي السياسي.
وسيلاقي الدور الجديد والبناء الذي يلعبه العراق الترحيب من دول المنطقة، بعد مضي سنوات على أعمال صدام حسين العدائية تجاه جيرانه وتشتيت إمكانيات وقدرات العراق، ثم عقدان من الانهيار العملي الذي أعقب غزو العراق.
ولكن العراق ليس مستقرا على الصعيد الداخلي بعد، ولا يزال النفوذ الإيراني مستشريا في جميع أنحاء البلاد.
ولم يكن جزافا أن يطلب الكاظمي من الرئيس الإيراني الجديد كبح جماح الميليشيات الشيعية داخل الأراضي العراقية قبيل الانتخابات المزمع إجراؤها الشهر المقبل، حيث لا يستطيع رئيس الوزراء العراقي نفسه فرض سيطرته على أراضيه، كما كان واضحا من هجوم الطائرات دون طيار، الذي لا يزال مجهول المصدر، على مطار أربيل في وقت سابق من هذا الشهر، ولا حتى منصب الكاظمي بمنأى عن الخطر، فهو لا يملك حزبا سياسيا، ويلُف مستقبله السياسي بعد انتخابات العاشر من أكتوبر الكثير من الغموض.
وهذه هي نقطة الضعف لدى وسيط العرب.
ويعكس الشرق الأوسط مع تحالفاته المتعددة والمتغيرة صورة متقلبة ومتبدلة باستمرار، وينطوي السعي للعب دور الوسيط في منطقة ذات مصالح عالمية ضخمة على مخاطرة كبيرة (ويمكن التعلم من تجربة المملكة الأردنية، التي حاولت على مدى التاريخ لعب هذا الدور، ثم وجدت نفسها مهمشة مع إدارة ترامب).
تصميم الكاظمي على مد جسور التواصل مع كل الجهات لا يقتصر على الصعيد الدبلوماسي فحسب، فقد وقع صفقة مع لبنان لمقايضة النفط بالسلع والخدمات
وبعد مضي عدة أيام من عقد قمة الكاظمي في بغداد، وقع حادثان يوضحان الفكرة أعلاه. الأول كان توقيع المملكة العربية السعودية على اتفاقية تعاون عسكري مع روسيا، وهي خطوة مفاجئة بالنظر إلى مدى قرب المملكة من الولايات المتحدة. ووقع الحادث الآخر في الأيام التي أعقبت القمة، حيث تم إجراء مكالمة هاتفية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، مما كسر سنوات من العلاقات الفاترة، وهما تحولان مهمان في غضون أيام، كلاهما من قبل بلدان متاخمة للعراق، ولم يشارك العراق في أي منهما.
ولا يكفي لدولة مثل العراق أن تلعب دور الوساطة، كونها دولة محورية، ومحاطة بست دول، حيث يحتاج القادة أيضا إلى القدرة على التأثير بفعالية في رسم السياسات خارج حدودهم، وإلا سيتحول البلد إلى مجرد ناقل للرسائل، وهي ترقية من أن تكون فقط عبارة عن رقعة شطرنج يخوض عليها الآخرون معاركهم، وذلك كان حال العراق لسنوات عدة، ولكنها مكانة غير مستدامة لدولة تملك إمكانات العراق.
ولن ينجح لعب دور الوسيط في الشرق الأوسط إلا إذا كان رئيس الوزراء العراقي قادرا على خلق الاستقرار في داخل بلده، وتأمين مستقبل سياسي، وأن يكون لديه رأي يؤخذ به حول قضايا المنطقة. وخلاف ذلك، ستتحكم النيات الحسنة والأهواء السياسية للآخرين بمصير البلد، كما ستجد تلك البلدان أنه من الملائم تجاهل الرسول عند الضرورة.
* سينديكيشن بيرو