فيصل اليافعي يكتب:

السلطة في العراق لا تمارس فقط من خلال صناديق الاقتراع

إرسال الطائرات دون طيار الثلاث التي استهدفت مقر إقامة رئيس الوزراء العراقي تم لإيصال رسالة واضحة إلى قلب سلطة الدولة في بغداد. مفاد تلك الرسالة هو أن السلطة في العراق لا تمارس فقط من خلال صندوق الاقتراع.

أصيب رئيس الوزراء بجروح طفيفة جراء الانفجار، ولكنه وقف على رجليه متحديًا وقال في خطاب تلفزيوني في نفس اليوم “نحن نعرف الجناة جيدًا، وسوف نلاحقهم”.

لكن في حقيقة الأمر، لم يسع الجناة لإخفاء هوياتهم، فعلى الرغم من عدم إعلان أحد عن مسؤوليته، إلا أن مصادر استخباراتية متعددة أشارت بأصابع الاتهام إلى الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، ولا تملك تلك الميليشيات إمكانية استخدام الطائرات المسلحة دون طيار فحسب، بل إنها  استخدمتها في هجمات سابقة.

كما أن لتلك الميليشيات سجلّا من العداء الشخصي تجاه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي حاول كبح جماح سلطتها العارمة، وبعد خسارة مقاعد في انتخابات أكتوبر بذلت الميليشيات جهودًا كبيرة لإظهار قوتها، حيث نظمت احتجاجًا جماهيريًا في شوارع بغداد تحول إلى مواجهات دموية بعد اشتباكات مع الشرطة.

بالنسبة إليها فإن هجمات الطائرات دون طيار والاحتجاجات الجماهيرية ليست مجرد وسيلة لتحدي سلطة الدولة، بل هي في الواقع استمرار لنفس السياسة لكن بطرق أخرى.

ولم يكن الهجوم المرة الأولى التي تسعى فيها الميليشيات لاستعراض عضلاتها.

حتى منذ أن تراجع تحالف الفتح السياسي، الذي يعمل كذراع سياسية للميليشيات، من ثاني أكبر كتلة في البرلمان السابق إلى مجرد 17 مقعدًا فقط في انتخابات أكتوبر، والتي ادعوا أنها كانت مزورة وكانوا مقتنعين بالتزوير في التصويت ضدهم، ولم تعثر مجموعات المراقبة على أي دليل حول التزوير، إلا أن الميليشيات نظمت احتجاجًا جماهيريًا قبل يومين من محاولة الاغتيال، وسار المتظاهرون إلى المنطقة الخضراء وقُتل اثنان عندما أطلقت قوات الأمن النار عليهم لمنعهم من دخول المكاتب الحكومية، وبعد مضي 48 ساعة تعرض منزل الكاظمي للهجوم.

وكانت الميليشيات، بالطبع، تستهدف الدولة العراقية نفسها بهذا الهجوم، لكن رئيس الوزراء نفسه منشغل في تبادل عرض القوة مع قوات الحشد الشعبي، فهو يرسل رسالة، وهم يرسلون أخرى.

واعتقل الكاظمي خلال الصيف قاسم مصلح وهو قائد قوات الحشد الشعبي في الأنبار، وعادة ما تتمتع الشخصيات القوية مثل مصلح بالحصانة القانونية، لذلك اعتُبر الاعتقال محاولة كبيرة لكبح شخصيات بذلك الوزن، وردا على ذلك نزل مقاتلو الميليشيات المدججين بالسلاح إلى شوارع بغداد وفرضوا سيطرتهم على مدخل المنطقة الخضراء، وكانت تلك رسالة للكاظمي مفادها أنها ليست الدولة فقط من يتحكم بزمام الأمور في العراق.

وبعد أسبوعين، تم إطلاق سراح قاسم مصلح. وحاول الكاظمي نفس الشيء قبل عام عندما اعتقل 14 مقاتلاً تم إطلاق سراحهم في غضون ساعات، مرة أخرى بعد استعراض للقوة من قبل الميليشيات.

اقتحام المتظاهرين للسفارات الأجنبية والهجوم بالطائرات دون طيار هما الجولة الأخيرة من استعراض القوة. في الظاهر كان المتظاهرون يزعمون حدوث تزوير في الانتخابات، لكن السبب الحقيقي هو نفس السبب الخاص بالهجوم بالطائرات دون طيار، وهو استعراض للقوة ورسالة للكاظمي والحكومة أنه حتى لو فقدت هذه الجماعات السلطة السياسية في الانتخابات، فإنها لا تزال تحتفظ بالدعم الشعبي، أو على الأقل القدرة على حشد المئات إلى الشوارع، فضلاً عن القوة الفعلية في هيئة طائرات دون طيار ومقاتلين مسلحين.

ومع استمرار مفاوضات ما بعد الانتخابات بخصوص تشكيل الحكومة الجديدة، تريد الميليشيات التأكد من أن الكاظمي أو خليفته، إن كان الهجوم ناجحًا، قد فهم أن عليه أخذ مصالحهم في عين الاعتبار بغض النظر عمّا يقوله الناخبون.

والمشكلة الرئيسة هي أن العراق لديه مراكز قوة متنافسة، وكل منها قادر على ممارسة القوة الشعبية والعسكرية، وهي مشكلة سبقت مجيء الكاظمي، بل إنها مشكلة سبقت تشكيل قوات الحشد الشعبي.

وبرز مقتدى الصدر باعتباره الفائز في الانتخابات البرلمانية التي جرت الشهر الماضي، لكن أثناء الاحتلال الأميركي كان يمثل شوكة دائمة في خاصرة الولايات المتحدة، ولم يرغب في قبول إملاءات بغداد واستمر في محاربة القوات الأميركية.

إن تحوله إلى سياسي قومي، حيث حذر بعد محاولة الاغتيال من أن العراق قد يعود “إلى حالة من الفوضى وتسيطر عليه قوى غير حكومية”، لا يغير حقيقة أنه بالإضافة إلى السيطرة على التيار الصدري هو أيضاً يقود منظمة شبه عسكرية وهي كتائب السلام، وذلك يمنحه نفوذاً يتجاوز صناديق الاقتراع.

وينطبق الشيء نفسه بالطبع على إيران التي تدعم الميليشيات وكانت قلقة للغاية من تلقي سهام الشك واللوم حول ذلك الهجوم إلى درجة أنها أرسلت قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني إلى بغداد في غضون ساعات من الهجوم للقاء الكاظمي شخصيًا ونفي أي صلة لطهران بالهجوم، ومع ذلك يستمر الدعم الإيراني للميليشيات التي لا تخضع لسيطرة الدولة العراقية.

حاول رؤساء وزراء العراق المتعاقبون كبح جماح سلطة الميليشيات، لكن دون جدوى. وقد حاول عادل عبدالمهدي سلف الكاظمي إجبار الميليشيات على التخلي عن مقارها العسكرية في أنحاء البلاد، ولكن تم تجاهله. وحاول رئيس الوزراء قبله حيدر العبادي جرّ الميليشيات تحت مظلة قوى الأمن الوطني، وهو أيضا تم تجاهله.

رد الكاظمي المدروس على الهجوم أمام مجلس الوزراء بأنه “سيكشف” الجناة هو اعتراف بأنه يفتقر إلى القدرة على محاربتهم بحق، وهي حقيقة لم تتغير بتعبيرات الدعم من الدول في الخارج، فآخر ما يحتاجه العراق هو حرب أهلية بين الفصائل السياسية المتناحرة وميليشياتها.

قد تعتبر محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي نوعا من التصعيد، لكنها تتماشى إلى حد كبير مع محاولات الميليشيات استخدام وسائل غير سياسية للتعبير عن سلطتها السياسية، فبعد أن فشلوا في إقناع العراقيين عبر صناديق الاقتراع، انتقلوا إلى الاحتجاجات والاغتيالات في الشوارع، وسرعان ما تصبح مثل هذه الأعمال الاستثنائية أنشطة مألوفة في السياسة العراقية.

------------------------------------

المصدر| العرب