هدى الحسيني تكتب:
يهددون بالمسيّرات والصواريخ ويخشون «عود الكبريت»
تتضارب الأخبار حول الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة وآخرها رجح الفشل لأسباب كثيرة؛ لعل أهمها عدم الجدية من إيران فيما يتعلق بشرط المراقبة الدائمة من وكالة الطاقة الذرية. يقول مسؤول في وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) إن عدم الجدية الإيرانية ربما تكون بسبب عدم معرفة الإيرانيين بالقدرات المتطورة المذهلة التي تملكها الولايات المتحدة والتي تمكنها من كشف دقيق لما يحصل على الأرض وتحت الأرض وحتى داخل الغرف المغلقة ولو كان همساً. وهناك من يتحدث عن خلاف حول مستقبل النفوذ الإيراني في المنطقة خصوصاً في منطقة الخليج وعبث الأذرع الإيرانية في أمن مجتمعات المنطقة واستقرارها.
ومع صدور بيان للخارجية الأميركية في الأول من هذا الشهر رداً على رسالة إيران والذي وُصف ما جاء فيها بأنه لا يمكن البناء عليه، تراجعت آمال التوصل إلى اتفاق، وتكاثرت أخبار اندلاع حرب في المنطقة، تفجّرها الذراع الإيرانية الأقوى أي «حزب الله». ويتم التداول بسيناريو يقوم على قيام الحزب بضرب باخرة استخراج الغاز الإسرائيلية «إينيرجين» قبالة الساحل اللبناني بواسطة عشرات المسيّرات المتفجرة التي تنطلق من قواعد انطلاق متعددة، يتبعها رد إسرائيلي حتمي مزلزل يطال أهدافاً عسكرية لـ«حزب الله» أغلبها موجود في مناطق سكنية مكتظة. وكما في السابق، ستصدح أصوات الإدانة والاستنكار والتكبير ودعوات الصمود أمام العدوان الغاشم. وسيرد الحزب بوابل من صواريخه التي يصفها بالدقيقة على المستعمرات الحدودية الإسرائيلية وتتصاعد العمليات العسكرية حتى تصل إلى ما يهدد أمن المنطقة بكاملها بدخول ميليشيات إيران الأخرى التي يمكن أن تطلق المسيّرات والصواريخ، ويدخل العالم وبخاصهً أوروبا في أزمة كارثية النتائج اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً تُفاقم الأزمة الراهنة التي تطال جميع الدول التي يسودها تضخم أسعار جنوني وانحسار اقتصادي في الوقت ذاته. وفي هذا السيناريو الدموي يتم اللجوء إلى إيران للجم عمليات الأذرع، ويعود التفاوض من جديد في فيينا وتتنازل الولايات المتحدة عن بعض الشروط التي لا ترضي المرشد.
هذا السيناريو يقوم على نهج معروف تقوم به الدول التوسعية وفيه تستند إلى عملائها لافتعال أزمات ومن ثم تتدخل لحلها لقاء أثمان، وقد أصبح هذا السيناريو معروفاً في المنطقة العربية بسبب تكراره، وكان الرئيس السوري حافظ الأسد أكثر من يجيد إعداده وتنفيذه. فقد كان يأمر الفصائل الفلسطينية الخاضعة لسيطرته في أثناء فترة الحرب الأهلية اللبنانية بافتعال الأزمات، مثل خطف الأجانب، ومن ثم تتوسل الدول التي ينتمي إليها المخطوفون لكي يتدخل ويساعد في إطلاق سراحهم. وبعد مفاوضات وهمية يتم تحرير الرهائن بعملية استعراضية هوليوودية ويحصل الأسد في المقابل على أثمان معينة من ضمنها اعتراف دولي بنفوذه الإقليمي. أما إيران فقد طورت هذا النهج عن طريق تعزيز قدرات العملاء، فبدلاً من فصائل تتألف من مرتزقة لا تجمعهم عقيدة ولا هدف لديها سوى التشبيح والتسلط على العباد، فقد قامت إيران بتمويل وتدريب وتسليح ميليشيات انتشرت في العالم العربي كله سراً وعلناً، والأهم أقدمت على تنشئة هذه الميليشيات وبيئتها الحاضنة فكرياً وعقائدياً ليصبح ولاؤها مطلقاً، فينفذ أفرادها أوامر إيران بلا تردد لأنها «أوامر الله» تأتيهم من مراجع لا يمكن التشكيك فيها «الولي الفقيه». وهكذا أصبح لعملاء إيران أو أذرعها تأثير أكبر على مساحة أوسع بكثير من فصائل التشبيح التي نفذت نهج الأسد الأب. ولكن في المقابل هناك معلومات يقال إنها موثوقة تفيد بأن الاتفاق مع إيران قد أُنجز وما يحصل اليوم ليس سوى عملية انتظار لتمرير استحقاقات آتية في الربع الأخير من السنة، منها الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة والانتخابات في إسرائيل... عدا ذلك من سيناريوهات الحرب وقرع الطبول هو فقط لتحقيق انتصارات وهمية لحرب لن تقع.
فالعالم يدرك تماماً من هم العملاء الإيرانيون ولن يستطيع نظام الملالي التخفي كما في السابق وراءهم فيما يقدمون عليه، ثم يتدخل لفض النزاعات وقبض الأثمان. عالم اليوم يحمّل الجمهورية الإسلامية تبعات مغامرات الأذرع وسيفرض مزيداً من العقوبات التي لا قدرة لأي دولة على تحملها. والحقيقة أن إيران تدرك هذا وهي مستعجلة لرفع الحجز عن أموالها، ولم يعد لديها ترف الانتظار الطويل، فهي ليست بمنأى عن مشكلات العالم الاقتصادية التي تفاقم معاناة الشعب الإيراني.
كانت إيران تأمل في أن يخفف الأوروبيون من موقفهم في المحادثات النووية، بل يضغطون على الولايات المتحدة لقبول مطالب طهران بإحياء الاتفاق النووي لعام 2015، كان منطق طهران هو أن أوروبا يمكن أن تستخدم إمدادات النفط والغاز الطبيعي الإيراني في سعيها لخفض الواردات بشكل جذري من روسيا بحلول نهاية عام 2022.
مسار العمل هذا لم ينتهِ حتى الآن. في الواقع، ينظر الإيرانيون إلى البيان الأوروبي المشترك الأخير (الصادر عن ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة) على أنه «تهديد مستتر» لإحياء فكرة الحملة العسكرية الغربية- الإسرائيلية لوقف برنامج إيران النووي إذا فشلت الدبلوماسية. الحقيقة هي أنه في حين أن الأوروبيين محبطون بشدة من التأخير في استئناف الاتفاق النووي، لا يوجد دليل على أن أوروبا لديها أي رغبة في الدخول في صراع عسكري مع إيران. ذكر البيان الأوروبي المشترك «التشاور» مع الشركاء حول «أفضل السبل للتعامل مع التصعيد النووي الإيراني المستمر»، لكن هذه ليست دعوة للحرب. يدرك الإيرانيون ذلك أيضاً، لكن كل طرف منهمك في جعل الآخر يبدو كأنه الطرف غير المعقول في العملية الدبلوماسية البطيئة للغاية التي دخلت الآن شهرها الثامن عشر.
ثم هناك قضية جهود إيران للترويج لنفسها كقوة عالمية للطاقة. لا شك أن إيران تمتلك بعضاً من أكبر احتياطيات النفط والغاز الطبيعي في العالم. لكن القيادة الإيرانية أظهرت القليل من الجدية في تحويل هذه الاحتياطيات إلى صادرات فعلية، وبالتالي إلى عائدات مالية. يمكن قياس هذا التقلب بعدة طرق مختلفة، ولكن ربما تكون الإشارة الأكثر وضوحاً تتعلق بالتزام طهران الضعيف على ما يبدو برفع العقوبات الرئيسية عن البلاد. لا يمكن أن يحدث هذا إلا إذا كان هناك اتفاق نووي جديد. حتى ذلك الحين، ستبقى المصالح التجارية الدولية الرئيسية بعيدة عن إيران. بالمناسبة هناك قرار دولي بأنه لا حل إيجابياً في لبنان في وجود سلاح «حزب الله».
وتشير علاقات إيران الوثيقة مع روسيا إلى أن طهران لن تكون راغبة أو قادرة على التهام حصة تصدير الطاقة التقليدية لشريكها في الأسواق الأوروبية. بعد زيارة الرئيس فلاديمير بوتين طهران في يوليو (تموز) الماضي، أقدم المسؤولون الإيرانيون على التراجع لطمأنة الروس بأن إيران ليس لديها خطط لاستبدال النفط والغاز الروسي الذي سبق أن ذهب إلى أوروبا. وبدلاً من ذلك، وقّعت إيران اتفاقية رمزية بقيمة 40 مليار دولار مع شركة «غازبروم» الروسية لتطوير حقول الهيدروكربون في إيران. وحتى لو تحقق هذا الاتفاق فعلياً، وهو أمر مستبعد جداً نظراً لسجل موسكو المشكوك فيه في إيران، هناك شيء واحد مؤكد: «غازبروم» لن تساعد عن طيب خاطر الغاز الإيراني في استبدال الكميات الروسية في أوروبا. مع سيطرة بوتين بشكل واضح على طهران، من الغريب لماذا لا يزال المسؤولون الإيرانيون يتوقعون أن يأخذ الأوروبيون بلادهم على محمل الجد كمورد رئيسي محتمل للنفط والغاز للقارة في المستقبل؟
من ناحية أخرى فإن قارعي طبول الحرب من الأذرع يدركون أن سلاحهم وصواريخهم لا يمكن استعمالها إلا بأمر مرشدهم وولي أمرهم ونعمتهم في طهران، وهم فهموا أن هذا لن يحصل، لأن هذا المرشد يعلم أن أي عملية عسكرية تُقدم عليها الذراع ستكون هذه المرة مثل عود الكبريت الذي لا يشتعل سوى مرة واحدة، ومن بعده يتم تدميره بالكامل، بينما ينظر العالم في اتجاه آخر غير آبهٍ بصرخات الاستغاثة وحماية الأرواح البشرية. فهذا المرشد ونظامه لا يرمي إلى مواجهة إسرائيل والعالم وتحرير القدس كما يشيع، فالخميني أقفل سفارة إسرائيل في طهران، وطبعاً لم يعطها لمنظمة التحرير الفلسطينية كما يشاع، وقطع العلاقات الدبلوماسية، ولكن النظام إلى اليوم لم يسحب الاعتراف بالدولة الإسرائيلية التي كان شاه إيران من الأوائل الذين تسابقوا إلى الاعتراف بها في الأمم المتحدة إلى جانب الاتحاد السوفياتي. ما يريده المرشد هو فقط السيطرة على مجتمعات المنطقة بواسطة السلاح بأيدي عملائه لاستعادة أمجاد إمبراطورية فارسية أقامها قورش (كسرى) عام 559 ق.م.
الأسبوع الماضي شنت إسرائيل غارتين على مطار حلب وفي الغارة الثانية تم تعطيل الملاحة لأجل غير مسمى في المطار الدولي بسبب الأضرار الجسيمة للمدرجات والمبنى. مضحكٌ ومبكٍ كان رد وزير خارجية سوريا فيصل المقداد محذراً إسرائيل بأنها تلعب بالنار وبالتأكيد أخافها، لكنه لم يكن يعتقد أن بيني غانتس وزير الدفاع الإسرائيلي، سيكشف يوم الاثنين الماضي بماذا يحذّر المقداد، إذ كشف غانتس عن خرائط لعشر منشآت عسكرية مختلفة في جميع أنحاء سوريا تستخدمها إيران. قد يكون المقداد فوجئ بما يعرفه غانتس اللئيم بقوله إن «إيران تبني صناعات إرهابية في سوريا من أجل احتياجاتها. وقد بدأت مؤخراً في بناء صناعات متطورة في اليمن ولبنان أيضاً. يجب وقف هذا الاتجاه».
وأبلغ غانتس المقداد بأن منشآت إنتاجٍ لصواريخ وأسلحة متوسطة وبعيدة المدى ودقيقة بدأت في ظل رؤية قاسم سليماني.
في هذا الوقت أصاب الصمم إيران والممانعين في محورهم، فهل بقي أحد يصدق كلام حسن نصر الله وتهديداته برفع إصبعه وصراخه؟ لكن بالمناسبة، على من يصرخ دائماً نصر الله باستثناء المومياوات من السياسيين، لأنه لم يعد أحد من اللبنانيين يستمع إليه، ثم إن لكل واحد عشرة أصابع، فليسمح لنا.