أحمد شهاب يكتب:

لماذا تتعثر الديمقراطية في الخليج؟

تتوق دول الخليج العربي لتصدر المشهد العالمي سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو التقني، وتركن في هذا الطموح إلى الثروة الاستثنائية التي خلقت طفرة في النهضة والتحول في ظرف سنوات قلائل، انتقلت خلالها من بلدان صحراوية بإمكانات محدودة وظروف معيشية متواضعة إلى بحيرات نفط يتابع العالم نموها وحركتها وقراراتها.

من المؤكد أن دول الخليج خطت خطوات جبارة في النهوض الاقتصادي واشتغلت بقوة في تطوير بنيتها التحتية، لكن التطور السياسي تم تجاهله بشكل عام، على الرغم من تعدد صور الحراك الشعبي الذي ظهر هنا وهناك وحاول أن يعبر عن وعي سياسي مبكر لكن لم يكتب له النجاح.

ربما الاستثناء الوحيد بين دول الخليج هو الكويت التي عاشت مخاضا عسيرا لم يتوقف عند إقرار أندية ثقافية ونقابات عمالية وأنشطة سياسية أو مهنية، وهي الأنشطة التي عمت جميع دول المنطقة، وإنما تميزت بالقبول الذي أبداه نظام الحكم بتأسيس مجلس تشريعي، والفصل بين السلطات، وتنازل الأسرة الحاكمة عن جزء من سلطة القرار لصالح الشعب.

من البديهي أن الاستقرار السياسي القائم على توافق ومشاركة شعبية يساهم بشكل تلقائي في تقدم الدول من جميع النواحي، بمعنى أن حالة التضامن الشعبي مع الحكم من شأنها أن تخلق دافعا جمعيا نحو الأفضل، وهذه من بديهيات الأنظمة الديمقراطية وأحد مصادر قوتها.

كثافة تدفق المعلومات حول الدمقرطة والإصلاح والحقوق ومكافحة الفساد والنظم الحديثة وغيرها من قيم المشاركة، تجعل من شعوب الخليج تواقة إلى أن تعيش هذه اللحظة وتتنفس هذه المفاهيم

لكن الأمور في دول الخليج لم تتحرك وفقا لهذه البديهيات، وإنما وجدنا أن الدولة بعد تبنيها الخيار الديمقراطي في الكويت حققت إنجازات على بعض المستويات السياسية لكنها أخفقت بشكل ذريع في جوانب أخرى مهمة بل مصيرية من قبيل مكافحة الفساد وتطوير النظم الإدارية وبناء الدولة، بشكل يتناقض مع الفكرة الديمقراطية وارتباطاتها القومية والتقدمية.

بينما وجدنا أنظمة أخرى في الخليج تصنف سياسيا بأنها أنظمة شخصية وهو تعبير عن الحكم المطلق، لكنها استطاعت أن تحقق تقدما ملموسا في جوانب مهمة وحيوية، فإن كان الخبراء يصنفون الكويت أكثر تقدما في العمل السياسي من دولة الإمارات على سبيل المثال، فإن دولة الإمارات سبقت الكويت اقتصاديا وإداريا وعمرانيا بمراحل زمنية.

هذه الملاحظة تتطلب تحليلا دقيقا لمعرفة الأسباب الحقيقية الكامنة خلف لامنطقية التجربة التنموية في دول الخليج من كل الجهات، وسيرها عكس خط التاريخ.

والتفسير الذي أقدمه هنا أن دول الخليج اتبعت في وقت مبكر إستراتيجية “تحصين الملوك”، فنظام الحكم في الخليج وراثي، وله تقاليده الخاصة، وقام على جملة من المعادلات القبلية والسياسية، خلقت نمطا في العلاقات بين الحكم والهيئات التجارية والشعب بمكوناته المختلفة، حاولت خلاله الأنظمة الخليجية الحفاظ على هذا الموروث، ومثلت التجربة الديمقراطية في الكويت قلقا كبيرا لها، فهذه التجربة إن نجحت فمن المؤكد أن فرص استنساخها خليجيا سوف تكون كبيرة جدا، وفقا لنظرية الدومينو في الانتقال الديمقراطي وتأثر الشعوب.

وفقا لهذه النظرية فإن النموذج الديمقراطي الناجح في دولة ما ينتقل بشكل سريع إلى الدول المجاورة، وأن الشعوب تتأثر ببعضها البعض، لاسيما إن كانت بينها نقاط مشتركة، مثل العادات والتقاليد وهي المشتركات التي تلتقي عليها الشعوب الخليجية.

على المستوى العريض لمنطقة حوض دول الخليج العربي يمكن ملاحظة أن التنازع حول الديمقراطية انحصر بين منظومتين رئيسيتين:

الأولى، منظومة السلطة التقليدية: تحاول أن تحافظ على ميراث الحكم التقليدي في الخليج، وتدعم هذه المنظومة حكومات المنطقة ومجموعة من القبائل ورجال الأعمال (التجار) والتيارات الدينية التقليدية. وتركز هذه المنظومة على أفكار أساسية مثل التأكيد على قيم الولاء والطاعة، والحفاظ على الأعراف والتقاليد السياسية، والدفاع عن الأصالة.

والثانية، منظومة الضغط والحداثة: وتسعى للتأسيس للديمقراطية والعدالة ومراقبة أداء السلطة، وحق المشاركة في صناعة القرار، وفرض الرقابة والمحاسبة المالية، والانتخابات النزيهة، والتسامح واحترام التعددية، وحرية المعتقد، والشراكة في الوطن. ويدعم هذه المنظومة بعض الأجيال الجديدة في الحكم، والتيارات السياسية الحديثة والشعوب بصفة عامة.

دول الخليج خطت خطوات جبارة في النهوض الاقتصادي واشتغلت بقوة في تطوير بنيتها التحتية، لكن التطور السياسي تم تجاهله بشكل عام

تسعى منظومة السلطة التقليدية لإثبات فشل منظومة الضغط والحداثة، وإحدى أهم الرسائل التي تكررها باستمرار هي عدم قابلية شعوب المنطقة الخليجية للديمقراطية، وأن الدول العربية لا تتقدم إلا بالحكم الفردي، فهي جبلت على القهر وفرض الأنظمة والقرارات.

خلال الخمسين سنة الماضية طرحت العشرات من الدراسات والمقالات التي تحذر من الديمقراطية، وتربط بين حرية الرأي والنزاعات داخل الدولة، وبين الديمقراطية وعرقلة العمل الحكومي، ومن يتابع على سبيل المثال المقالات التي تنشر في الصحافة الكويتية أو الصحف في دول الخليج يلاحظ كمية الاتهامات التي توجه إلى الديمقراطية أو مجلس الأمة بصفته المعرقل الرئيسي للتنمية.

فكل ممارسة، من الأسئلة البرلمانية إلى استجواب الوزراء إلى النقاشات الحادة إلى تقارير اللجان، يتم وصفها بالعدائية وعرقلة الديمقراطية وعدم التعاون مع الحكومة، وأنها السبب وراء تعثر التنمية، وتوقف المشاريع، ونزيف الميزانية العامة، وسلة جاهزة من الاتهامات.

والنتيجة التي ترغب منظومة السلطة التقليدية في الوصول إليها باختصار هي إقناع الشعوب الخليجية وقبلها القوى والمنظمات الدولية بأن الشعوب الخليجية لا تصلح للديمقراطية، وأنه كلما خففنا من الديمقراطية زادت فرص النمو الاقتصادي وبناء الدولة والتقدم، ويدعم حجتها واقع دول الخليج القائم.

لكن من الواضح أن كثافة تدفق المعلومات حول الدمقرطة والإصلاح والحقوق ومكافحة الفساد والنظم الحديثة وغيرها من قيم المشاركة، تجعل من شعوب الخليج تواقة إلى أن تعيش هذه اللحظة وتتنفس هذه المفاهيم.

ومن جهة أخرى فإن قدرة التجربة الكويتية على تجاوز عثرات الفساد والجمع بين النظام الديمقراطي وتطور مفاهيم الحقوق والحريات وتحقيق تقدم في مشروع التنمية في البلاد، من شأنها أن تعزز التجربة الديمقراطية في الخليج وتدفع نحو تعميمها.

وفقا لما سبق فإن المحافظة على الديمقراطية وتطوير مسيرتها في المنطقة تحفل بالكثير من الصعوبات. فهل تنجح منظومة السلطة التقليدية في إقناع الشعوب بمخاطر الديمقراطية أم تنجح منظومة الضغط والحداثة في التقدم في مشروعها التوعوي وتعميم التجربة لنشهد ربيعا ديمقراطيا سلميا في دول الخليج؟