د. صبحي غندور يكتب:

أميركا بين قوّتها العسكرية وضعفُها المجتمعي!

ردّد بعض الساسة اللبنانيين، في مطلع السبعينات من القرن الماضي، مقولة “أنّ قوة لبنان هي في ضعفه” لتبرير عدم بناء جيش وطني قوي وقادر على حماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية. وطبعاً، ثبت بطلان هذه المقولة فيما بعد حينما احتلّت إسرئيل جنوب لبنان عام 1978، ثمّ عاصمته بيروت وعدة مناطق أخرى في العام 1982.
وما أعاد هذه المقولة اللبنانية إلى ذاكرتي، حالة معاكسة في أميركا، وهي ما عليه ميزانية وزارة الدفاع الأميركية للعام الحالي من مبلغ يقترب من نسبة ثلث الميزانية العامّة الأميركية ولا تعادلها في ذلك أي دولة بالعالم، عِلماً أنّ وزراة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تتعامل مع حوالي مليوني شخص من الموظفين العسكريين والمدنيين وجنود الاحتياط.
ففي شهر ديسمبر الماضي، وفي الفترة التي كان يتمّ فيها التفاوض المباشر مع موسكو بشأن مطالبها في أوكرانيا ومستقبل الأمن الأوروبي، وقّع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، على قانون الميزانية الدفاعية الأمريكية للعام المالي 2022 بقيمة تبلغ 770 مليار دولار.
 

ويزيد حجم الميزانية الدفاعية لسنة 2022 المالية على حجم سابقتها بواقع 5%، وهي تتضمن نفقات تتجاوز ما طلبه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بمقدار 25 مليار دولار.
وتضمنت الميزانية العديد من الإجراءات لـ”ردع” روسيا والصين، بما فيها تخصيص 300 مليون دولار لدعم أوكرانيا وقواتها المسلحة، و4 مليارات لدعم “المبادرة الدفاعية في أوروبا” و150 مليون دولار لتمويل “التعاون الأمني” مع دول البلطيق.
ومن بين “إجراءات الردع” أيضا تخصيص 7.1 مليار دولار لتمويل “مبادرة الردع في المحيط الهادئ” الرامية إلى ردع الصين ودعم تايوان.
طبعاً، ذلك كلّه سبق الغزو الروسي لأوكرانيا في نهاية شهر فبراير الماضي، ثمّ ما ورد في “إسترايجية الأمن القومي الأميركي” التي أعلنها “البيت الأبيض” في الأسبوع الماضي، والتي فيها تأكيد على الخطرين الروسي والصيني على الأمن الأميركي.
نعم، أميركا هي القوّة العسكرية الأعظم الآن، وهكذا كانت في معظم عقود القرن الماضي، لكن يبدو أنّ “ضعف أميركا الآن هو في قوّتها”، أي عكس المقولة اللبنانية التي أشرت إليها، لأنّ القوة العسكرية الضخمة تخلق جنون العظمة وتسقط المبادئ لحساب المصالح، وتجعل من يملكونها يستسهلون فكرة امتلاك العالم كلّه، ثمّ يتبين فيما بعد، أنّ القوة بغير حقّ لا تدوم ولا تنتصر.
فأميركا التي استطاعت الهيمنة العسكريّة على الأرض والفضاء معاً… أميركا التي أسقطت منافسها الكبير في القرن العشرين، القطب السوفييتي، رغم إمكاناته الضخمة في كلّ المجالات… أميركا التي ورثت الإمبراطوريّات الأوروبيّة وجعلت من دولها نجوماً تسبح في الفلك الأميركي… أميركا الجبار الدولي الأوحد وقف مرّةً أخرى (بعد تجربة حرب فيتنام في الستّينات)، وخلال سنوات قليلة من عمر القرن الحادي والعشرين، بمظهر العاجز والضعيف أمام صدماتٍ أمنية وعسكرية!.
الصدمة الأمنية التي أظهرت العجز الأميركي كانت العمليات الإرهابية التي حدثت في نيويورك وواشنطن وأودت بحياة آلاف من المدنيين الأبرياء الذين سقطوا ليس فقط ضحيّة الإرهاب واستخدام الطائرات المدنيّة لضرب مؤسّسات مدنيّة، بل أيضاً نتيجة التقصير السياسي والأمني الأميركي، وعدم استعداد إدارة بوش الابن لمثل هذه الأعمال رغم توقّع وتحذير المخابرات المركزيّة الأميركية من إمكانات حدوثها.
الأمر الآخر العسكري المخزي الذي عاشته أميركا في هذا القرن الجديد، وكان صدمةً عسكرية وسياسية، هو نتيجة احتلال العراق وما حدث خلاله وبعده من عجزٍ أمني وتصدع مجتمعي، ومن فضيحة سياسية بسبب بطلان مبرّرات الغزو، ثمّ الممارسات المشينة التي جرت خلال فترة الاحتلال ضدّ العراقيين. وقد تكرر الأمر نفسه في أفغانستان حيث أنسحبت القوات الأميركية بشكل مذلٍ وعادت “طالبان” للحكم بعد 20 عاماً من الأحتلال الأميركي.
أحداث سبتمبر 2001 كشفت العورات الأمنيّة والسياسية في أميركا، والحرب على العراق وأفغانستان كشفت عجز استخدام القوة العسكرية من دون حقّ عن تحقيق النصر المنشود.
وكما أنَّ المشكلة لم تكن في القدرات الأمنيّة والتكنولوجية لأميركا في توقّع أحداث سبتمبر 2001 والتحوّط لها، فإنَّ المشكلة في العراق خصوصاً لم تكن أيضاً في قدرات أميركا، بل في غياب مشروعية القرار بالغزو، وفي الأهداف المشبوهة له، وفي أساليب القتل العشوائي والقهر للمواطنيين العراقيين.
فهل يمكن تفسير الأمرين (11 سبتمبر وغزو أفغانستان والعراق) بأنَّهما حصيلة “غرور العظمة” الأميركية وتحوّل مكامن القوّة إلى عناصر ضعف ووهن لدى القطب العالمي الأعظم، أم إنّ الرابط بين الأمرين هو جدير بالتوقّف أمامه أيضاً؟!.
فتقرير وكالة المخابرات الأميركية للرئيس جورج دبليو بوش في شهر آب/ أغسطس 2001 كان واضحاً في توقّعاته بشأن إمكانيّة حدوث أعمال إرهابية في نيويورك وواشنطن، وبأنَّ عناصر من “القاعدة” قد تستخدم طائراتٍ مدنيّة في أعمالها، وقد قرأ الرئيس الأميركي هذا التقرير في يوم 6/8/2001 خلال إجازته في تكساس، ولم يقرّر هو أو إدارته أي إجراءات استثنائيّة لمنع حدوث ما كان في معلومات وتقديرات جهاز المخابرات المركزيّة. وهذا الأمر عرفه وسمعه وشاهده الأميركيون والعالم خلال جلسات لجان الاستماع في الكونغرس الأميركي التي سبقت إصدار التقرير الشهير عن أحداث أيلول/سبتمبر 2001 .
إدارة بوش الابن قرّرت عدم الاستعداد لمواجهة احتمالات أعمال إرهابية في أميركا، لأنّها كانت تريد توظيف هذه الأحداث حين حصولها من أجل البدء في تنفيذ أجندتها، التي أعطت الأولويّة للحرب على العراق منذ مجيئها للحكم في مطلع العام 2001، إضافةً إلى توظيف ردّة الفعل على الأعمال الإرهابية في أميركا لصالح رئيس جاء بقرار من المحكمة الدستوريّة العليا، وممّا يعطي الأعذار المحلّية والدولية لسياسة الحروب والانتشار العسكري الأميركي في العالم، وممّا أيضاً يوجِد مظلّةً سياسية وقانونية لإجراءاتٍ داخلية وخارجية تخدم أجندة “المحافظين الجدد” آنذاك.
زيادة حجم ميزانية “البنتاغون” عاماً بعد عام هو استنساخ لنهجٍ مارسه “المحافظون الجدد” مطلع هذا القرن، من اجل الحفاظ على وحدانية القطب العالمي حتى لو أدّى ذلك لمواجهات عسكرية مباشرة مع روسيا والصين!.
إنَّ القوّة الحقيقية لأمريكا كانت في تعدّديتها الثقافية وفي تنوّع أصول شعوب مجتمعها، وفي تكامل ولاياتها الخمسين، وفي نظامها الدستوري الذي يساوي بين جميع المواطنين. وهذه العناصر للقوة الداخلية الأميركية تهتزّ الآن بشدة بعد محصلة سنوات حكم ترامب، حيث الإنقسامات العميقة تظهر جلياُ الآن في المجتمع الأميركي، وحيث الضعف والوهن لا يقتصر فقط على مراكز القرار السياسي في الحكومة المركزيّة، بل أصبح في خلايا المجتمع الأميركي كلّه.
الولايات “المتحدة” تتغذّى الآن فيها من جديد مشاعر التمييز العنصري والتفرقة على أساس اللون أو الدين أو الثقافة، بعدما تجاوزت أميركا هذه الحالة منذ معارك الحقوق المدنيّة في الستّينات، ثمّ من خلال انتخاب باراك أوباما لأهمّ منصبٍ حكومي في العالم.
أميركا تشهد الآن حالاتٍ من الخلافات والصراعات على أساس الأنتماءات القائمة على لونٍ أو عنصر أو دين أو ثقافة، وهذا ما يهدّد وحدة أي مجتمع ويعطّل أي ممارسة ديمقراطية سليمة. وستكون “الأنتخابات النصفية” في مطلع الشهر القادم امتحاناً لعناصر القوّة المجتمعية الأميركية المهدّدة بالانهيار وبالصراعات الداخلية، وبانعكاس ذلك سلبياً على دور الولايات المتحدة في العالم.