ماجد السامرائي يكتب:

هل تحل الصين محل الولايات المتحدة في العراق

غالباً ما يبتعد المؤرخون عن تكرار المقارنة ما بين حضارتي الصين والعراق، لكونهما لا تحتاجان إلى أدلة مادية ومعنوية، تاركين المجال لحاضر هذين البلدين، وأحدهما الصين التي تمكنت من استحضار العمق الإنساني الخلاّق واستثمار الحجم العددي والنوعي في خدمة المدنية الحديثة داخل سور الصين ونقله بسلاسة التطور المدني الإنساني الحديث إلى محيط العالم، واختراقه السياجات الداخلية المدنية الأميركية التي أصبحت اليوم تواجه خصماً لا يرتدي بدلة “المطرقة والمنجل” بل “G5 وهواوي”.

المعركة اليوم قد تكون مفهومة الأبعاد من قبل الإدارات الأميركية. ولكن، يصعب تصور مواجهتها من قبل الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، الذي يعتقد أنه نجح في نقل ساحتها من مناطق الصراع التقليدية في الشرق الأوسط إلى أواسط آسيا (روسيا والصين)، لسبب ساذج لا يرقى إلى الإستراتيجيات الأميركية التقليدية هو إبعاد إيران نظام الولي الفقيه، لكي لا يصبح الخصم الرئيسي المتقدم الذي يتطلب أنماطاً من المواجهة تصل إلى مستوى الصراع والحرب، مثلما حصل في أفغانستان والعراق، حيث أسقط نظاميهما السياسيين بالاحتلال العسكري المباشر.

وقع بايدن في خانة السذاجة السياسية التي كان طبيعيا أن يوصف بها الرئيس السابق دونالد ترامب المغامر الذي خلط المكر التجاري الذي تفنن به بسياسة دولة وصفت نفسها بالمتفرّدة في قيادة العالم، بلا جدارة، في القرن الحادي والعشرين، لتقترن بسذاجة السياسي التقليدي جو بايدن ابن الحزب الديمقراطي المعتد بالتقاليد الديمقراطية الأميركية.

قد تُفهم حتى في العموميات دلالات الانسحاب الأميركي من العراق والمنطقة كتبرير لإيقاف نزيف الخسائر المادية والعسكرية الأميركية، وليس تكفيراً عن ذنوب تاريخية اقترفت ضد شعب العراق ونظامه السياسي قبل 2003، الذي لم يوجه سهام العداء والاحتراب ضد الولايات المتحدة مثلما تفعل اليوم طهران.

التناقض الأكثر سذاجة هو عدم استيعاب أو الإحاطة ببرنامج المواجهة الإستراتيجية الصينية وهي الأخطر على الإستراتيجية الأميركية في العراق الذي تركته واشنطن لطهران وبكين وموسكو دفعة واحدة، وتقديم الخطر الروسي على أهميته في أولويات الصراع لمستوى تحشيد العالم الغربي في معركة خسرتها شعوب دوله غذاء وأمناً في أوكرانيا.

الصين اشتغلت على منطقة الشرق الأوسط بسلاسة سياسية وذكاء اقتصادي هادئ لعقود، وكان العراق منذ وقت مبكر ضمن أولوياتها، وليس في وقت ما بعد التورط الأميركي واحتلاله العراق عام 2003، إنما منذ عهد النظام السابق الذي تكاثفت على رأسه ضغوط الإيفاء بالتزامات العلاقات الخارجية منذ كارثة احتلال الكويت عام 1990، حيث يواصل الكويتيون إلى اليوم أعمال الثأر من شعب العراق، وآخرها غلق ميناء الفاو.

حاول صدام حسين جس النبض الصيني بعد أن ضاقت من حوله الدوائر فأوفد نائبه طارق عزيز إلى الرئيس الصيني في نوفمبر 2000 الذي طمأنه. وتحفظت الصين على قرار الحرب عام 2003، لكنها لم تستخدم الفيتو كما فعلت روسيا وفرنسا، ضمن حسابات المرونة مع واشنطن، وكما قيل حينها إنها مرحلة انتقال السلطة الصينية إلى جيل جديد.

الصين ثاني أكبر مستهلك للطاقة في العالم ستجد نفسها بحلول عام 2030 مضطرة لاستيراد نحو عشرة ملايين برميل يوميا من النفط، أي أكثر من 8 في المئة من إجمالي الطلب العالمي.

الجمود الغبي لإدارة باراك أوباما ثم بايدن تجاه سياسة الصين في العراق منع عنهما الرؤية الدقيقة للمصالح الأميركية من الزاوية الصينية، فقد رمت تلك السياسات العراق في حضن الصين عبر التعجيل بتوقيع الاتفاقية الصينية – العراقية “النفط مقابل الإعمار”.

اعتقد الرئيس الأميركي بايدن أن إصدار تقرير إستراتيجية الأمن القومي الأميركي في أكتوبر 2022 سيحميه من المساءلة خلال هذه الأيام ضمن حالة التقييم وانتخابات أعضاء الكونغرس، فالتقرير الصادر عن إدارته فيه ابتعاد وتراجع عن المتطلبات الإستراتيجية الخارجية الأميركية الثابتة في مفاصل عدة.

في هذا التقرير لم تعد الولايات المتحدة قائدة العالم الحر، هناك إقرار واعتراف بتعدد القوى الكبرى “لا نعتقد أنه يجب إعادة تشكيل الحكومات والمجتمعات في كل مكان على صورة أميركا حتى نكون آمنين”. بوضعها روسيا كخصم إستراتيجي مباشر تجد الإدارة الحالية أن حربها حاجة إستراتيجية مع أنها ليست كذلك. ويعترف التقرير أن الصين تسعى إلى نظام عالمي متعدد جديد عبر القوى الدبلوماسية والاقتصادية والتكنولوجية.

تقول واشنطن في عام 2022 أعطينا وسنعطي الأولوية للحفاظ على ميزة تنافسية دائمة على جمهورية الصين الشعبية، مع تقييد روسيا التي لا تزال شديدة الخطورة. فبينما نتنافس بقوة مع الصين، ندير تلك المنافسة بمسؤولية. سنسعى إلى المزيد من الاستقرار الإستراتيجي من خلال تدابير تقلل من خطر التصعيد العسكري غير المقصود.

تعترف إدارة بايدن أنه عندما تعمل الولايات المتحدة على ردع التهديدات التي يتعرض لها الاستقرار الإقليمي، ستعمل بذلك على تقليل التوترات، وخفض التصعيد، وإنهاء النزاعات حيثما أمكن ذلك من خلال الدبلوماسية وبناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شركاء الولايات المتحدة وفيما بينهم، بما في ذلك من خلال هياكل دفاع جوي وبحري متكاملة، مع احترام سيادة كل دولة وخياراتها المستقلة.

لكن الثغرة الكبرى فيما تسمى الإستراتيجية الأميركية الجديدة التي لها علاقة بتجاهل الملف العراقي هي القناعة بضرورة نقل ميدان الصراع مع روسيا والصين إلى العالم الآسيوي بعيداً عن العراق، ليتم ملء الفراغ من قبل هاتين الدولتين المتربصتين بواشنطن المريضة بسياسييها العجزة.

إدارة بايدن تعتقد، فيما تسميه التقرير الإستراتيجي الصادر في أكتوبر الماضي، أن معركتها الأولى التي حشدت لها أوروبا المتقهقرة هي ضد روسيا.

التطور الإستراتيجي المهم لإدارة بايدن هو إعلان وزير خارجيته أنتوني بلينكن أن واشنطن لا تريد تغيير النظام القائم في طهران بقوله “إننا لن نستخدم جيشنا لتغيير الأنظمة أو إعادة تشكيل المجتمعات، لكن بدلاً من ذلك نحصر استخدام القوة في الظروف التي يكون فيها ضروريًا لحماية مصالح أمننا القومي وبما يتماشى مع القانون الدولي، مع تمكين شركائنا من الدفاع عن أراضيهم من التهديدات الخارجية والإرهابية”.

مقابل تلك السياسة الرسمية الخرقاء ظهرت انتقادات حادة في أوساط الرأي العام الأميركي، فقد انتقدت صحيفة واشنطن تايمز الأميركية تعاون العراق المتنامي مع الصين، محذرة من أن بكين تستخدم “القوة الناعمة” للتغلغل في الاقتصاد العراقي وخاصة في القطاع النفطي، وذلك في غياب الاهتمام الأميركي، مستفيدة من علاقتها مع الميليشيات العراقية وأجواء الفساد القائم في البلد.

هذه المعلومات أكدها تقرير صادر عن مركز الأبحاث الإيطالي “جيوبوليتيكا” جاء فيه أن “الصين تستغل الفراغ الأمني الذي ظهر بعد الانسحاب الأميركي من العراق، وأن شركات الصين تقوم بالتحالف مع الميليشيات لتحقق موطئ قدم قوي لها في صناعة النفط العراقية”.

وأشار تقرير لجامعة فودان في شنغهاي الصينية إلى أن “الصين أبرمت في العام 2021 صفقات إعمار جديدة في العراق بقيمة 10.5 مليارات دولار، وهو ما يشكل سدس استثمارات ‘مبادرة الحزام والطريق’ الصينية في ذلك العام”.

وأوضح التقرير أن “العراق برز بالنسبة إلى الصين باعتباره الشريك التجاري الأول في المنطقة، وهو ثالث أكبر موردي النفط لها، بعد السعودية وروسيا، مضيفا أن احتياطات العراق النفطية المثبتة من الطاقة بالإضافة إلى موقعه الإستراتيجي على الخليج العربي وقربه من مضيق هرمز، يمثل أهمية بالغة لمبادرة الحزام والطريق”.

ونقل عن خبراء قولهم إن دور الصين في إعادة إعمار العراق وتعزيز علاقات الصين وإيران يؤديان إلى تسريع الوجود الصيني في العراق على حساب الولايات المتحدة. وتستخدم الصين بدهاء إستراتيجيات “القوة الناعمة” بهدف السيطرة على الدول التي تحتاج إلى المال، وهو ما ينطبق على العراق في تعارض قويّ مع مبادرات القوة الصلبة التي تتبعها الولايات المتحدة.

الاتفاقية الصينية – العراقية الموقّعة بين حكومتي البلدين عام 2019 أصبحت حقيقة واقعة. الصين، ومن خلال هذه الاتفاقية، تريد ربط العراق ورهن اقتصاده ضمن مشروعها العملاق الذي يعرف بمبادرة “الحزام والطريق”، الذي يقوم على أنقاض طريق الحرير لبناء أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، يقول عنها الخبير الاقتصادي العراقي أحمد الهذال “هذه الاتفاقية مع الصين جاءت بعد أن فقد العراق أمله بشأن تنمية الولايات المتحدة لاقتصاد العراق، لذلك توجه العراق إلى الصين كي تأخذ على عاتقها مسألة النمو الاقتصادي العراقي والقيام باستثمارات ضخمة داخل البلد. لدى الصين جدية كبيرة في القيام باستثمارات داخل العراق، لسبب يختلف عن توجه الولايات المتحدة نحو العراق، حيث أن توجه الولايات المتحدة سياسي غرضه خلق حالة من التوازن في منطقة الشرق الأوسط بعكس الصين التي لديها حلفاء تجاريون في المنطقة، نتيجة سياستها المرنة”.

العشرات من العقود التي جرى توقيعها في السنوات الأخيرة، تضمن الوجود المتزايد للصين في وقت تبحث فيه الشركات الغربية الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، عن الخروج من السوق العراقي. أما التسريبات القائلة بتهديد السفيرة الأميركية ببغداد لرئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني بأنه إذا ما تم تنفيذ الاتفاقية الصينية – العراقية فسيلحق بزميله عادل عبدالمهدي، فهذا كلام تسريبات صحافية، واشنطن خرجت من معادلة النفوذ وحلّت محلها الصين فعلياً.