ماجد السامرائي يكتب:

نهاية الولائيين وديمقراطيتهم المزيفة في العراق

لم يجد الدكتاتوريون من مدّعي الشعار الإسلامي في العراق غطاء أفضل لسياساتهم الطائفية الهمجية من الشعار الديمقراطي، هدية التيار اليميني الأميركي لهم عام 2003، رغم خلوّ عقيدتهم المذهبية وبرامجهم الحزبية الغائبة من هذا الشعار الذي أصبح في السنوات الأخيرة لعبة العصر في الحكم، بعد فضائح الدكتاتوريات الحزبية والفردية في العالم الشرقي ومنطقة الشرق الأوسط.

خطورة نمط الدكتاتورية الإسلامية الجديدة، التي تأسست ونمت في العراق، أن لها غطاء عصريا مدنيا يحميها، إضافة إلى دعم وحماية دول كبرى في مقدمتها الولايات المتحدة ومؤسسات ديمقراطية غربية لا تكترث جميعها بما يحصل في الواقع العراقي المأساوي الحالي من انتهاكات لحقوق الإنسان وفساد لم نر له مثيلا في التاريخ.

الولايات المتحدة باعتبارها مرجعية الديمقراطية الأولى في العالم لا تتردد في الدفاع عن النظام السياسي الفاسد القائم في بغداد، مع أنها سبق أن رفعت يدها وتبرّأت من أنظمة حكم كانت تحظى برعايتها في أميركا اللاتينية، تغلفت زيفا بالشعار الديمقراطي، لأنها سلكت الفساد بنسب لا تصل إلى مستوى ما يحصل حالياً في العراق.

هذا جانب واحد من المشكلات التي تواجه النخب الفكرية والسياسية الوطنية المشتغلة على التغيير السلمي في العراق، وإقامة البديل الديمقراطي الحقيقي، وليس المزّيف الذي صنعته واشنطن وباركته طهران.

تمسُّك الدكتاتوريين الجدد في العراق بالشعار الديمقراطي تنافيه وتبطل يومياته الفرضيات النظرية، وتكشف زيفه حقائق الواقع السياسي لليومي.

في أدبياتهم، رفض الثوريون “الديمقراطية الليبرالية” واستبدلوها بتسمية الديمقراطية الشعبية، وهي نمط يحافظ على قيادة دكتاتوريات الأحزاب الثورية. ومن المحرج للأحزاب الشيعية المدعيّة لـ”الحكم الإسلامي” التخلي عن الديمقراطية بالمعنى الذي رسمته لهم واشنطن، وفي عنصر من عناصرها “الانتخابات” التي وفّرت وما زالت توفر لهم المقاعد المريحة في برلمان يتم شراء أعضائه بالمال الفاسد.

إذا ما أراد الدكتاتوريون الجدد في بغداد مغادرة فعلية للديمقراطية الغربية ليس أمام ناظرهم خيار آخر يذهبون إليه، وهم حمقى سياسة. هل سيدمجون المذهب الشيعي بالشعار الديمقراطي، في حين لا تتوفر للمذهبية الإسلامية في العراق الحدود النظرية الدنيا للحكم إلا في إعلان الاندماج الفكري والسياسي مع منطلقات الخميني التي في جوهرها مشروع تصدير الثورة الإيرانية إلى العراق والمنطقة العربية. وهذا الباب مغلق أمامهم.

منذ وقت مبكر بشّر الدين الإسلامي بثورة شعبية قادها النبي محمد، وأرسى وفقها أولى قواعد النظام الديمقراطي الإسلامي، معلنا أن الناس سواسية أمام الله والقانون. وحين دخل الترف أحوال المسلمين كانت هناك الثورات الشعبية، مثل ثورة علي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري.

من القصص الموّثقة حول ديمقراطية القادة القصة المشهورة عن عمر بن الخطاب بعد توليه الخلافة، عندما قام في وجهه رجل يقول: والله يا عمر لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا، فقال له عمر “الحمد لله الذي أوجد في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر”.

تاريخياً تراجعت الديمقراطية ذات الهوية الإسلامية، واندثرت بعد أن انعزل قادة السلطة في ملذاتهم الخاصة. كان من الطبيعي سقوط الدولة العربية الإسلامية على أيدي المحتلين الذين لا يختلفون جوهرياً عن محتلي العراق اليوم، الفرس الخمينيين.

تراجع شوط الشعار الإسلامي بعد قيام جدران عالية بينه وبين الواقع، وشعور الدكتاتوريين الجدد وقناعتهم بأن لعبة رفع الشعار الإسلامي لم تعد مقنعة، وانكشاف لعبتهم بغياب البرنامج السياسي لدولتهم الهزيلة بإسلامهم المخادع وديمقراطيتهم الهشة. كلا الغطاءين لم يوفّرا الحد الأدنى من الإنجازات للشعب في ظل انتهاكات حقوق الإنسان، وخنق الكلمة ومنع تداول الرأي الحر والاستخدام الظالم للقضاء الخادم للحكام المستبدين ومصادرة حقوق الصحافيين الأحرار.

التطور الخطير الذي أزاح الغطاء المذهبي هو ثورة شباب أكتوبر 2019 رغم إخماد لهيبها، من خلال تعميم فكرة الوطن والمواطنة ونبذ الطائفية التي غطت شعاراتهم وسلوكهم السلمي خلال سنتي 2019 – 2021.

رغم ذلك يحتاج الدكتاتوريون الجدد إلى استمرار فعاليات الغطاءين المذهبي الشيعي والديمقراطي، ولو بالحدود النظرية الدنيا أمام غياب الإنجاز. مشكلتهم، بل فضيحتهم، أن الغطاء المذهبي الشيعي لم يعد يؤهلهم، ولا حتى الإسلامي العام الذي لا يجدونه مناسباً لمأزقهم المذهبي الطائفي.

أما في ميدان الغطاء الديمقراطي، عمليا، لم يكن للسياسات اليومية لأحزاب الحكم علاقة بأيّ عنصر من عناصر الديمقراطية أو تطبيقاتها في مجالات التعددية السياسية، وحرية الصحافة، ومحاربة الطائفية السياسية، وبناء مؤسسات ديمقراطية حرة. والأهم من ذلك لا تلتقي الديمقراطية مع الفساد الذي يغرق فيه البلد منذ عشرين عاما.

الغباء السياسي والغطرسة الدكتاتورية حالتا دون اهتداء الحكم إلى حلول صحيحة. ليلجأ عمليا إلى الاستعانة بنماذج مستهلكة بادعاء أنها أطر شعبية، مثل الاعتماد على بعض شيوخ العشائر المرتزقة. واقعياً لا علاقة لمثل هذه النماذج الرخيصة بأيّ شكل من أشكال الديمقراطية. كذلك الدور التجهيلي المخرّب لبعض رجال الدين الطائفيين المرتبطين بقادة تلك الأحزاب.

المأزق الذي يزداد ضغطه على قادة أحزاب الفساد والطائفية هو عدم وجود وسائل سياسية يتمكنون من خلالها من تشغيل غطاءي المذهب الشيعي والديمقراطية الليبرالية، بعد انتهاء مفاعيلهما خلال العشرين سنة الماضية.

مثلا، حزب الدعوة بدأ بشعارات إسلامية متشددة حد التطرف، ولم يعد على المستوى السياسي اليومي وبعد ثماني سنوات من حكمه الدكتاتوري الفاسد متحمسا للعنوان الإسلامي، خصوصاً بعد مغادرة أغلب الإسلاميين لقياداته وكوادره بوقت مبكّر بعد 2003، لكن هذا الحزب لم يتمكن حتى في ظل رغبة قيادته المتمثلة في نوري المالكي من التبني الفكري للديمقراطية الليبرالية، لأن معنى ذلك ولادة حزب جديد ليس حزب الدعوة، وستنقلب السخرية السرية من الديمقراطية داخل منظوماته القيادية التنظيمية وبالا عليه.

هذا المثال ينطبق على المنظمات الأخرى، كالمجلس الإسلامي الأعلى، الذي بدأ في عهد أمينه العام الراحل محمد باقر الحكيم متشددا في شيعيته التابعة لطهران، التي ميزته بأول ميليشيا ولائية وقفت ضد العراقيين خلال حربهم مع إيران تحت عنوان فيلق بدر، الذي تأسس عام 1982، لكنه تفكك لأنه اشتغل تحت اسم عائلة “آل الحكيم” لخدمة مشروع تصدير الثورة الإيرانية إلى العراق. ليصبح اليوم عبارة عن تجمع علاقات عامة لصالح المشروع الإيراني في العراق، يقوده عمار، ابن عبد العزيز الحكيم، كأحد قادة حكم العراق دون الاهتمام  بالمرجعيات الفكرية والسياسية.

المؤمنون ومتعاطو الديمقراطية يقولون: لا ديمقراطية بلا ديمقراطيين. ونقول هنا لا ديمقراطية مع الفساد. لو أرادت الولايات المتحدة لرفعت الغطاء الديمقراطي عن الأحزاب الإسلامية وميليشياتها التابعة لإيران في العراق. فهذا هو الطريق الأقصر والأيسر بدل الشعارات الدبلوماسية المخادعة.

لو سألت أيّ مسؤول أميركي: لماذا منحتم هؤلاء هذا الغطاء الديمقراطي ثم تركتموهم يفعلون ما فعلوه من انتهاكات ضد شعب العراق؟ لأجابك ببرود وبساطة وتغطية للكذبة الكبيرة: لم يكن أمامنا غير هؤلاء في معارضة نظام صدام حسين حيث قررنا إسقاطه، الذنب يقع على شعب العراق الذي صوّت لهم لأربع دورات انتخابية.

مع هذه الصورة المُحبطة لا ينتظر العراقيون ونخبهم الثورية من أميركا مواقف مساندة لهم، واعتبروا اعتمادهم على أنفسهم المنطلق المهم لطريق التغيير المتمثل في إزاحة النظام السياسي الفاسد والدكتاتوري وإقامة البديل الشعبي الجديد.