ماجد السامرائي يكتب:

هل انتهت ثورة أكتوبر في العراق؟

استطاعت ثورة أكتوبر – تشرين الأول الشبابية العراقية عام 2019 تخفيف حالة الإحباط التي زرعتها الأحزاب الحاكمة وميليشياتها في نفوس العراقيين. ولم تكن الآمال المعلقة على الثورة ما أعلن على المنصات الإعلامية من ادعاءات ثورية نظرية، بل ما قدمه الشباب العراقي الثائرون من دمائهم حين واجههم بالسلاح الحكام الفاسدون وعلى رأسهم مدعي الإسلام الشيعي عادل عبدالمهدي.

ثورة 2019 لم تكن البداية. من يقول ذلك إنما يظلم شعب العراق وانتفاضات أبنائه في المناطق الغربية، سواء المواجهة المسلحة مع المحتل الأميركي المتحالف مع الميليشيات الولائية منذ عام 2003، أو عام 2012 و2013 في الأنبار، وذلك رغم الاختراقات المتطرفة المدعومة من حكومة نوري المالكي الذي قرر، ونفذّ، سحق تلك الانتفاضة الشعبية ووصف رجالها بأبناء يزيد والإرهابيين.

ثورة شباب أكتوبر شكلّت امتداداً شعبياً حيوياً، التغيّر التنظيمي فيه أنه مثل شباب أبناء الوسط والجنوب في الناصرية والبصرة وكربلاء وغيرها من المحافظات الشيعية المحرومة، حيث كشف هؤلاء الشباب خدعة الأحزاب التي ادعت أنها جاءت من أجل طائفتهم الشيعية.

هذا التحول لم يحرج تلك الأحزاب فقط، إنما دفعها إلى طريق حلول المستبدين والقتلة، فنفذت جرما كبيرا وقتل أكثر من 800 شاب وشابة بدم بارد، دون أن يفي مصطفى الكاظمي بوعده كمسؤول أول بإيداع المجرمين في السجون الذي جاء للسلطة وفقه. صَمَتَ الكاظمي صَمْتَ ساكني القبور، وأزيح أخيراً من المسؤولية بقرار إطار المالكي العائد بقوة بعد أن أهداه مقتدى الصدر 73 مقعداً. في الأيام الأخيرة بدأت حكايات الاستهزاء الشخصي بالكاظمي المخلوع تنشر؛ مثل صور نومه في طائرته حين كان في موقع المسؤولية وكأنها عيب إنساني. هذا هو مستوى مدّعي السياسة في العراق.

بعد ثلاث سنوات على قصة ثورة شباب 2019 الرائعة وما يحكى عن صدمة نهايتها، لا بد أن يكون أصحاب الرأي والمبادئ أكثر موضوعية في تقييم هذه التجربة الثورية الشعبية التي حصلت في العراق، وألا تتداخل العواطف والأمزجة الذاتية في تقييمها. البعض وصفها بنهاية الثورة، وآخرون تعاطفوا معها لدرجة النظر إلى إشكالاتها الأخيرة بأنها مؤقتة. فنحن في الواقع إزاء ثورة انطلقت في ظل ظرف ظلامي، وعلينا أن نكون منصفين في التقييم الموضوعي الداعم لها.

لا شك أن هذه الثورة تمثل انعطافة في الوعي العراقي مقابل مسلسل التجهيل الطائفي المتخلف منذ عام 2003، الذي حوّل الملايين من الشباب بعد حقنهم بالمخدرات القاتلة إلى أصوات بلا أحاسيس تردد المقولات المستوردة مثل “ننتظر حضور المهدي المنتظر”، والمستوى المفزع المُخجل الذي يصدر من عراقيين جهلاء، وما أكثرهم اليوم، أساؤوا لمواصفات العراقي الأصيل في ممارسات الخنوع للإيرانيين “الأسياد” الزائرين لكربلاء والنجف بلا حواجز أو سمات دخول.

ليس دفاعاً عاطفيا عن الثورة، لكنها حقائق جديدة حول الوضع السياسي العراقي يمكن أن نجدها بوضوح فيما يلي:

توسعت الفجوة بين شعب العراق ومن يدعون مشايخ معمّمين جعلوا الجيل الجديد ينفر من خرافاتهم الدينية والمذهبية، كانوا يقيمون الدنيا ولا يقعدونها بشأن أحداثٍ في اليمن أو البحرين مثلاً، بينما آثروا السكوت لمقتل المئات من العراقيين.

نجحت الثورة في تحجيم دور الأحزاب الدينية والتيارات الطائفية، اختفت أصوات وتراجعت عناوين مثل “زعيم تيار، مختار عصر، قائد حشد”.

التمسك بالوطنية العراقية هو الهوية التي قدمتها الثورة في فعالياتها السياسية والجماهيرية، مثل حقيقة “العراقيون لا يوالون وليّ الفقيه في إيران، الموالون فئة عراقية باغية منبوذة لها مهمات تجسسية لصالح ذلك النظام الأجنبي”.

النظام الحاكم لا يتمتع بأيّ مصداقية، العراق يخلو من الحرّيات، النظام لا يعرف الإنسانية حتى مع مواطنيه. وإذا كان يتذرّع بالشرعية الانتخابية وهي مزوّرة فإنه فقد أيّ مشروعية وطنية.

المرجعية الدينية في النجف التي يسير على خطاها ويستمع لتوجيهاتها قطاع شيعي واسع لم تنطق بالحق وكانت متراخية وصامتة إزاء جريمة قتل الشباب الثائر.

رغم الملحمة الثورية الشعبية لأكتوبر لكنها لم تحصل على الحدود الدنيا من التأييد الرسمي العربي وحتى الشعبي، في تناقض ما بين الادعاءات والواقع. مثلا، لم يصدر عن الجامعة العربية حتى بيان تأييد خجول لهذه الثورة وإدانة لحمام الدم في شوارع العراق، وكأنما العرب لم يعد يعنيهم العراق وأهله. بدلاً من ذلك وجدنا الإعلام الرسمي العربي يدعم استمرار الطغمة الحاكمة في العراق ويؤيد جرائمها في ضرب العراقيين.

الولايات المتحدة قصتها أعمق بكثير، رغم ادعاءات الأحزاب الولائية بأنها تدعم ثورة أكتوبر. ومعروف تخلي واشنطن عن العراق، وهي التي ساهمت في فجائعه وكوارثه منذ 2003. فليس من الأخلاق احتلال بلد وجعله كسيحاً، ثمّ تسليمه إلى الآخرين، وترك أهله طعماً لأعداء تاريخيين.

أهم تطور حصل خلال مسيرة الثورة الشبابية هو فضح الاستقطاب الطائفي ومحاصرته ووضوح فكرة الوطنية العراقية. أليس هذا إنجازاً ثورياً كبيراً؟ أيضا تحقيق مستويات مهمة في تعزيز قيم جديدة للمجتمع العراقي؛ فكرة التضامن العابر للفروقات الطبقية قد لا تبدو قوية الوضوح لكنها تطور جدّي في ملامح الحالة العراقية الراهنة.

من خصائص ثورة أكتوبر أنها ليست ثورة مثقفين. شرائح الثورة الرئيسة هي من الطبقات البسيطة، من شباب فقراء يقطنون مناطق فقيرة ومهمشة، وكذلك من شرائح طلابية، أي أن المثقف العراقي لم يكن له دور قياديّ فيها، بل على العكس كان المثقفون مترددين في دعمها.

الأسئلة الأكثر خطورة وأهمية التي لا بد أن يفُتح حوار شعبي ونخبوي حولها هي: إن كانت هذه الثورة الشابة تمثل انعطافة كبيرة في المواجهة الفعلية المنظمة لإسقاط منظومة الفساد والتبعية، لماذا توقفت في بداية الطريق الشاق بعد قرابة الثلاث سنوات من الفعاليات، وتعطلت بشكل لافت في الذكرى الثالثة لانطلاقتها هذا العام. هل كان عليها أن تواجه القتلة بأدواتهم التقليدية، السلاح، لتبقى مستمرة؟ وهل حالت سلميّتها دون مواصلة الطريق؟ أم أن مشكلتها تركزّت في منظوماتها التنظيمية القيادية؟

لا يختلف الكثيرون على أن السبب الرئيسي في انتكاسة الثورة العراقية الجديدة هو الجانب القيادي التنظيمي، وهو واحد من عناصر فشل الثورات على مرّ التاريخ. نعم تغيّرت الظروف الخاصة بنظرية التنظيم وقيادته للجمهور خلال العقود القليلة الأخيرة، حيث أصبحت الصلة مباشرة ما بين قيادات ثورية شابة وجمهور عريض من المتفاعلين مع وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تحتاج إلى تنظيمات حزبية تقليدية، حيث أنتج هذا النموذج الجديد ثورات في مصر وتونس والسودان واليمن أسقطت نظماً دكتاتورية قوية.

في العراق الأمور مُعقدة، النظام القائم اعتمدته ونصبت أشخاصه واشنطن كنظام ديمقراطي “تجب مساندته وحمايته”، وهذا العائق الحيوي هو الأكثر خطورة. لا بد من قدرات غير تقليدية لتوضيح حقائق هذا النظام وكذب قادته رغم الآلاف من الحقائق التي تتكشّف يومياً. هل يريدون نظاماً يسرق قادته أكثر من المليارات التي تُسرق علناً ليرفعوا يدهم عنه؟

لعبة الحكام بسيطة وسهلة؛ استدرجوا الناشطين للدخول في لعبة ما سمّي الانتخابات المبكرة، فسقط بعضهم بسهولة، وحصل الانشطار بين الشباب المؤمنين بعدم التصالح مع قادة العملية السياسية وبين من سقطوا في فخ الأحزاب.

هذه الحقائق المؤسفة وغيرها أدت إلى تراجع فعاليات ثورة أكتوبر وانحسارها، لكن الثورة تحولت إلى واقع عراقي جديد أنهى أحادية السلطة المستبدة. قد يمضي وقت، لن يكون طويلاً، لتستعيد ثورة الشباب فعالياتها بعد تمكّن القيادات الوطنية المخلصة داخلها القيام بمراجعة هادئة لمسيرتها بموضوعية وجرأة.

هذا حال الثورات الكبيرة.. ألا يستحق شعب العراق ثورة أصيلة تنقذه مما هو عليه من حطام.. نعم يستحق ذلك.