د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

النكتة سلاح الشعوب المقهورة !!

النكتة نتاج فكري طريف يطال كافة شرائح المجتمع.. فلا تدع النكتة رجال السياسية ولا رجال الدين ولا عموم الناس.. تطال الأغنياء والفقراء.. الأغبياء والأذكياء.. الصالحين والطالحين..
الطيبين والأشرار.. إنها تعبير خيالي طريف ومضحك يثير أحيانا السخرية وأحيانا أخرى الشفقة لما تسعى إليه من مبالغة وتهويل.. فينفس المتلقي وأحيانا تبسيط وتسطيح للأمور. وهناك أجيال خرجوا إلى الوجود وهم يضحكون ولا يدرون لماذا؟!... أجيال تضحك في السراء والضراء.. وقت الرخاء ووقت الأزمات.. يضحكون قبل الأكل وبعد الأكل... يضحكون حين البرد والحر.. وأحيانا كثيرة يضحكون في كل الأوقات والضحك
لا يمكن التحكم في مصدر صناعته ولا ضبط إيقاعه ولا حتى إيقاف رواجه، والنكتة هي وسيلة التعبير الرئيسية ولسان حال عندما يعاني الشعب من الكبت والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهنا تتخذ النكتة شكل محاولة قهر القهر!!
وهي عمل درامي مستقل بذاته، له تركيبة أدبية وجمالية مضغوطة ومكثفة، إنها إفراز لمشاعر ومواقف وأراء بطريقة لا تدل على شخص صاحبها وغالبا ما تنشط في حالات الضغط الاجتماعي أو الإحساس بالقهر، ولا يعرف كيف تكتب أصلا، ومن أين تأتي؟
وهناك نكت أفسدت العلاقات بين الدول وتطلبت احتجاجا واعتذارا رسميين، كما وقع بين مصر وإسرائيل حينما دأبت الصحف المصرية على إطلاق "نتن يا هوه"، على رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، نتنياهو، ولم تعد تشير إليه إلا بهذا الاسم، مما دفع نتنياهو تقديم احتجاج رسمي للدولة المصرية !!
المسلمون والعرب في مختلف عصورهم لم يهملوا النكتة والطرائف ونوادر الكلام تداولا وتأليفا، فالمكتبة العربية تزخر بالكثير من كتب التراث، مثل تصنيفات الجاحظ وكتابه الشهير "البخلاء"، كما وضع الإمام الجوزي مؤلفات في النوادر والطرائف، كما أن هناك مؤلفات اهتمت بنوادر جحا، ومن بين هذه المؤلفات "أخبار الحمقى والمغفلين" لأبي الفرج الجوزي.. وهذا يدل على إن الطرفة قديمة وليست مستحدثة، تحكي واقعا سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا، ويقال أن هناك حكام وزعماء عرب يبدؤون يومهم بالسماع أو الاطلاع على تقرير بخصوص النكت التي قيلت عنهم وهناك علاقة طردية بين النكتة وحرية التعبير والرأي، إذ كلما ضاقت مساحة وحرية التعبير في المجتمع ازداد انتشار النكتة وتداولها، بل وزادت كمية السخرية في محتواها لتضحى كوميديا سوداء، إذ أن سياسة الدولة وقراراتها ورموزها تشكل موضوعات وكان العديد من زعماء العالم يتابعون النكتة، لاسيما السياسية منها، التي يرددها الشارع، فمنهم من يعتبرها كاستطلاع رأي لسياسته ومواقفه وتصرفاته وعاداته ونمط حياته، وآخرون اعتبروها مؤشر صعود أو هبوط شعبيتهم، فالجنرال "شارل ديغول" كان أكثر ما يزعجه هو أن النكتة السياسية أو الرسوم الكاريكاتورية لم تعد تعره أي اهتمام في أواخر حكمه، فقال: "لقد تدنت شعبيتي في فرنسا، فأنا لا أرى نفسي في الرسوم الكاريكاتورية ولا أسمع اسمي في النكتة التي تنتقدني !!
وكذلك الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي كانت تجمع له جميع النكت التي انتشرت بعد هزيمة 1967 حاملة سيلا من النقد اللاذع، حتى اضطر إلى إثارة ظاهرة النكتة في إحدى خطبه المشهورة، ولم يطلب من الشعب المصري أن يكف عن التنكيت، لأن هذا من قبيل المستحيل، بل ناشده أن يتقي الله في نفسه وأن يرشد النكتة بما لا تؤدي الشعور الوطني .
والسخرية السوداء" موجهة ضد القائمين على أمورنا، من أعلى الهرم إلى قاعدته، حكام ووزراء وسفراء وجنرالات وشخصيات وازنة، وعبر النكت و"السخرية السوداء" يوجه لهم أفراد الشعب رسائل مشفرة ينفسون على أنفسهم !!
إن النكتة سلاح الضعيف ضد القوي، سلاح الأقلية ضد الأغلبية، وغالبا ما تكون "قذفا بينا" يطلقه مجهول، ينتشر دون معرفة مصدره أو صاحبه .
وقد تنتقل من عصر إلى عصر لنفس الغاية وذات الأسباب، فهناك نكت أطلقت على القادة العرب والحكام المستبدين، كما أن هناك نكتا أطلقت على هتلر وموسوليني وستالين، هي نفسها التي ظهرت في لغات أخرى بعد اقتباسها لجعل أبطالها من طغاة البلاد والمستبدين .

د. علوي عمر بن فريد