فاضل المناصفة يكتب:
هل نرى أردوغان في القاهرة قريبا؟
لم يخل افتتاح كأس العالم من القليل من السياسة مع حضور العديد من الشخصيات الرسمية في هذا الحدث الذي تحتضنه قطر، ولعل أبرز حدث سياسي هو المصافحة التاريخية التي جمعت الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، بعد عقد من الجفاء والهجوم الإعلامي الذي مارسته تركيا ومارسه أردوغان شخصيا ضد القيادة المصرية. فما الذي جعل أردوغان يغير موقفه 180 درجة بعد أن كان يؤكد في كل مرة أنه لن يسامح السيسي إطلاقا، وأن ما يفعله هذا الأخير في مصر يرتقي إلى جرائم حرب؟
سبق أن نشرت مقالا في هذه الصحيفة (خلال شهر مايو الماضي) تحت عنوان “تركيا تتصالح مع العرب وتسقط ورقة الإخوان”، وذلك قبل صدور أي مؤشرات رسمية من الطرفين. وتوقعت حينها أن يشمل التغيير الحاصل في السياسة الخارجية التركية ملف مصر وسوريا، بما سيعرف بالانفتاح التركي على أعداء الماضي. والسبب أن تركيا تتأقلم مع التغيرات التي تحصل، وتكيف طبيعة علاقاتها بعد إعادة قراءة المشهد وفهم ما تتطلبه كل مرحلة.
هذه هي أصول فن السياسة. السياسة الخارجية التركية لم تذهب في عدائها ضد مصر حبا في نشر الديمقراطية وانطلاقا من موقف الأخلاقي تمليه ضرورة الوقوف إلى جانب التيار الإسلامي، كما ادعت أنقرة، بل انطلاقا من الحرص على مصالحها الاقتصادية والجيوستراتيجية في المنطقة. بعبارة أدق خسارة الإخوان في مصر شكلت ضربة موجعة لمخططات تركيا في ليبيا والبحر الأبيض المتوسط، وأعني هنا حاجة تركيا إلى موارد نفطية جديدة.
بعد سقوط الرئيس المصري الراحل حسني مبارك زار أردوغان مصر كرئيس وزراء، والتقى المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصفته الرجل الأول في مصر نتيجة للفراغ الدستوري الذي حدث، وتحدث عن بناء دولة وفقا للنموذج العلماني التركي.
الواضح أن تركيا كانت تريد اغتنام أوضاع ما بعد الثورة في مصر وحاجتها إلى حلفاء أقوياء لتقترب أكثر فأكثر من القاهرة، وتعزلها عن بعدها الإقليمي الذي كان يتميز بعلاقات جيدة مع دول الخليج في فترة الرئيس مبارك. لكن الإشارات التي صدرت عن القيادة المصرية حينها لم تذهب في الاتجاه الذي يريده أردوغان.
ومع مجيء الإخوان إلى السلطة انقلبت الأمور رأسا على عقب؛ الإخوان كانوا مستعدين لتقديم أي شيء مقابل وجود حليف يستفيدون من خبرته في إدارة شؤون البلاد، ويعوض تدهور علاقاتهم مع دول المنطقة، حتى وإن كلف ذلك تقديم تنازلات، أو الدخول في اللعبة التركية التي كانت تجري في سوريا وتوريط الجيش المصري فيها؛ إما من خلال تدريب عناصر سورية مسلحة أو على أرض المعركة، وهو الأمر الذي رفضته القيادة العسكرية في مصر جملة وتفصيلا وبلهجة حادة أكدت من خلالها أن دور الجيش هو حماية حدود مصر فقط.
وبعد سقوط الإخوان في مصر حاولت تركيا أن تعيد الجماعة إلى المشهد من خلال شبكات سعت لتنفيذ مخططات على مراحل هدفها إضعاف الدولة المصرية وزرع الشك في نفوس المصريين بمنظومتهم الأمنية، ومن ثم العودة إلى الشارع لإسقاط الدولة.
اليوم وبعد أن عاد الدور المصري للظهور في المسائل الإقليمية، واستعادت القاهرة علاقاتها الخارجية، اتضح لتركيا أن الاستمرار في معالجة الملف المصري بنفس الطريقة لن يجدي نفعا ولن يصل إلى أي نتيجة.
وبعد أن نجحت تركيا في الحصول على ما تريده من ليبيا -وقعت مؤخرا على اتفاق النفط والغاز مع حكومة الدبيبة- أصبح البحث عن علاقات أكثر اتزانا مع مصر ضرورة للمرور إلى الخطوات التنفيذية للاتفاق مع ليبيا، في محاولة لشرعنة الاتفاق الحاصل الذي تراه القاهرة غير قانوني. لهذا وجب فتح قنوات حوار مع مصر تجنب تركيا مغبة الدخول في متاهات قانونية من شأنها أن تعطل الخطوات العملية للاستفادة من نفط ليبيا. وقد تكون عناصر جماعة الإخوان أول كبش فداء تقدمه أنقرة للقاهرة، من خلال وقف نشاطهم على الأراضي التركية كبادرة لإصلاح العلاقات بين الطرفين.
وعلى الرغم من الخلاف الدائر حول النفوذ التركي غرب مصر، والذي قد يحول دون انتقال المصافحة إلى مصالحة حقيقية، إلا أن التقارب بين أنقرة والقاهرة يبقى أمرا ضروريا للطرفين؛ تركيا تحتاج إلى مصر بقدر ما تحتاج مصر إلى تركيا، فكلتاهما دولتان قويتان ولهما عناصر قوة مختلفة ومتفقة على مستويات عدة، يمكن أن تحقق لهما توازنًا في القوى يحول دون أن يطغى أيٌّ منهما على دور الآخر ومكانته. لهذا لا يستبعد أن نرى أردوغان في زيارة رسمية إلى مصر في الأشهر القادمة تذيب جبل الجليد بين البلدين.
الأيام المقبلة ستؤكد ما إذا كان الطرفان سيمضيان قدما باتجاه علاقات تطوي صفحة عقد كامل من الجفاء والعداء.