مختار الدبابي يكتب:
متى تخرج حكومة بودن من مربع تصريف الأعمال
تسود نظرة سلبية حول أداء الحكومة التونسية، حتى الذين يعلنون دعمهم للرئيس قيس سعيد يطالبونه بإجراء تعديل حكومي حتى قبل الانتخابات من أجل إظهار أن المشكلة في الحكومة وليس في السياسات التي يرسمها لها رئيس الجمهورية.
صحيح أن هذا الحكم نسبي، خاصة أن جزءا من أسباب تواضع أداء حكومة نجلاء بودن يعود إلى كونها مرتبطة شديد الارتباط بالرئيس سعيد، يوميا يستقبل رئيسة الحكومة أو وزيرا أو اثنين أو أكثر ليسدي تعليماته، وهي في الغالب تتعلق بالأحداث اليومية، وليس بالبرامج.
يمكن أن يوجه الرئيس ملاحظة أو فكرة أو نصيحة لوزير ما لتوجيهه ولفت نظره إلى تقصير أو حثه على تنفيذ روح السياسات الكبرى في مسائل باتت معروفة لدى التونسيين من مثل الحرب على الاحتكار والمحتكرين، والتزام الحكومة بألا تكون إصلاحاتها على حساب الفئات الفقيرة، وحفاظ الدولة على دورها في تقديم الخدمات المختلفة.
لكن الرئيس لا يضع برامج تفصيلية، بل الحكومة والوزير المعني بأي حقيبة، هو فقط يعطي توجيهات عامة من أجل الالتزام بالسياسات المطلوبة، وتبقى للوزير مهمة وضع البرنامج العام من خلال رؤية الحكومة، ثم البرنامج التفصيلي والوقوف على تنفيذه.
لكن المشكلة تكمن في البرنامج العام للحكومة، لم يسمع الناس رؤية حكومية من السيدة نجلاء بودن، ولم توجد ميزانية معلنة يتم التصديق عليها في نقاش علني ليعرف التونسيون مقاربة الحكومة وأهدافها، مرحليا وإستراتيجيا. كل ما يسمعونه هو تعاط ظرفي ومقاربة جزئية لما يطرح من قضايا طارئة، مثل موضوع إصلاحات صندوق النقد الدولي.
كان يفترض أن تقول الحكومة من البداية إن عندها برنامجا وتعرضه على الناس، وتضمّن فيه موضوع الإصلاحات الاقتصادية وما يروج عن توجه إلى تقشف حكومي قاس من أجل إعادة التوازن للمالية العمومية.
هذا برنامج مهم ويحتاج إلى أن يسمعه الناس من البداية وتقوم حوله النقاشات حتى إذا جاءت اللقاءات مع صندوق النقد الدولي وجدت الحكومة الرأي العام مهيأ لهذا المسار، وتقطع مع الاتهامات الموجهة لها بأنها لا تمتلك مقاربة ولا رؤية للمستقبل، وأن إصلاحاتها مسقطة أو مفروضة من صندوق النقد الدولي.
من المهم الإشارة إلى أن الحكومة ترفض أن تقدم مقاربتها بشكل واضح وفي برنامج محدد لتوجهاتها لعدة أسباب:
– الأول أنها تشعر أنها حكومة تابعة لرئيس الجمهورية، وأن مهمتها تنفيذ ما يطلبه، والانتظار لحين إبداء تعليماته في كل ما يتعلق من طوارئ، أي العمل بمنطق ردة الفعل على الأحداث. وهذا المسار يحوي مفارقة واضحة، وهي أن تكون الحكومة تابعة لرئيس الجمهورية بشكل مباشر لا يعني أبدا أنها تظل بالانتظار أو أنها تعمل في مناخ تسيطر عليه المحاذير والمخاوف من أن رئيس الجمهورية قد يغضب في أي لحظة، وهي بهذا ترهن نفسها في مربع حكومة تصريف الأعمال وليس حكومة بمهام كبرى.
– الثاني أن الحكومة تتصرف وفي ذهنها الحسابات السياسية، مع أنها حكومة تكنوقراط ويفترض أن تضع وراءها تصريحات الأحزاب وهجمات الخصوم، ولا تفكر في ما يقوله الغاضبون من إصلاحاتها، لأنها كحكومة تكنوقراط تعرف تمام المعرفة أن الإصلاحات يجب أن تقفز على التسييس والشعبوية.
هذا ملعب السياسيين الذين يتحملون مسؤولية ما وصلت إليه البلاد من أزمة اقتصادية حادة، فقد كانت الحكومات السياسية تتهرب من الإصلاحات وتؤجلها خوفا من الصدام مع اتحاد الشغل ومع موجة الإضرابات والاعتصامات التي توسعت بشكل كبير في ظل ضعف الدولة.
التكنوقراط يعني إصلاحات اقتصادية ومالية وتقشفا وخاصة الضغط على ظاهرة تبديد المال العام سواء في القبول بشروط اتحاد الشغل وضغوطه وإقرار زيادات الرواتب والعلاوات، أو من خلال استمرار الإدارة التونسية في التمتع بامتيازات لا تحصل عادة إلا حين تكون الدولة في أحسن أوضاعها مثل السيارات الإدارية التي تمنح لكوادر الإدارة، وكذلك منح التنقلات وكوبونات البنزين التي تمنح دون حساب طاقة الدولة وقدراتها المالية.
الحكومة الحالية، ورغم مرور أكثر من عام على تشكيلها في أكتوبر من العام الماضي، ما تزال تراقب، وتقيس، وتناور، وتتردد، وهي صفات لا تتماشى مع طبيعتها كحكومة تكنوقراط، بل تجعلها أقرب إلى حكومة تصريف الأعمال التي تنتظر الانتخابات البرلمانية. مع أن لا علاقة لها بالانتخابات، فهي حكومة الرئيس، سبق أن اختارها في غياب البرلمان وصادق عليها بنفسه، والسلطات الآن هي بيده، والبرلمان لا يتجاوز دوره المصادقة على القوانين المعروضة من الحكومة أو من رئاسة الجمهورية.
إن حالة الارتباك التي تبدو على عمل الحكومة لن تخدمها في نظر الشارع وفي نظر الرئيس نفسه. الشارع يعرف فقط الرئيس سعيد، وهو برأيه صاحب القرار، وحامل الأمل في التغيير، لكن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تراجع كبير، والناس يعانون من غلاء الأسعار وغياب مواد أساسية بعضها مرتبط بالاحتكار وتحدي الدولة مثل قطاع الألبان، والبعض الآخر مفقود لأن الحكومة لا تمتلك ما يكفي من العملة الصعبة لتوريده..
في ظل هذا كله ستزداد الأسئلة والشكوك والانتقادات وستطال رئيس الجمهورية كونه من كلف الحكومة وصادق على وزرائها، وليس فيهم من هو من خارج منظومته.
الصمت المبالغ فيه لا يعني أن الناس سيقبلون الأمر الواقع، بل إنه قد يقود إلى احتجاجات كبيرة في ظل موجة الإشاعات التي تشتغل عليها المعارضة واتحاد الشغل بعد أن صارا خارج اللعبة.
الصورة في النهاية تمس الرئيس سعيد، والحكومة إما أن تعمل بجدية وتسد الآذان عن الاتهامات وحملات التشويه، أو أنها ستتحمل مسؤولية فشلها أمام الرئيس سعيد، الذي سيجد نفسه مضطرا للبحث عن حكومة جديدة وبأسماء أكثر فاعلية.
ما زال الوقت أمام حكومة بودن لكي تقدم مشاريعها للمرحلة القادمة، وقبل ذلك تقدم نفسها كحكومة قوية ومتضامنة، وتطلق نفس التصريحات وبنفس الروح في القضايا الخلافية، فلا يمكن لوزير أن يصارح الناس بأن إصلاحات صندوق النقد ضرورية ثم يأتي وزير آخر ليقول إن الدولة لن تتخلى عن دعم المواد الأساسية، أو أنها لن تغلق أبواب التوظيف في القطاع الحكومي.
وزير يقول الحقيقة، ووزير آخر يقطع الطريق على الإصلاحات، إما لأنه يفكر بمنطق الحسابات السياسية، وطمأنة الشارع، وترضية النقابات، أو أنه غير مقتنع بالإصلاحات أصلا، وهذا ما يطرح مشكلة التناسق داخل الحكومة، وهو موضوع يحتاج إلى حل سريع من رئيسة الحكومة أو من الرئيس قيس سعيد.
حكومة نجلاء بودن ليست جزءا من السياسة إلا بقدر تعلق الأمر بتكليفات قيس سعيد. ونظريا هي ليست حكومة تصريف أعمال، بل حكومة تنفيذ مشروع الرئيس سعيد للتغيير، فماذا تنتظر لتبدأ بالعمل سريعا ووفق برامج ذات بعد إستراتيجي؟ من سيحيي المشاريع الكبرى للبنية التحتية من طرقات سريعة إلى قطارات جديدة تتجه إلى أحزمة المدن حيث الثقل السكاني، من سيفتح أكبر ملف حكومي مؤجل منذ ثورة 2011، ملف الشركات العمومية المهملة والفاشلة والتي يهيمن عليها الفساد، وترفض لوبيات مستفيدة من تأبيد الوضع الاقتراب منها ودراسة وضعها المالي وحاجتها إلى الموظفين من عدمها في وقت استغلت فيه تلك اللوبيات سنوات ضعف الدولة لإغراق الشركات والمؤسسات الحكومية بالموظفين فوق هذه المؤسسات وطاقة الدولة التي تمول كل عام لتغطية العجز المالي؟
فرصة حقيقية للحكومة كي تبدأ بروح جديدة، روح حكومة التكنوقراط التي لا ارتباط لها بالسياسة ولا طموح لرئيستها ولا لوزرائها في سلطة إلا بمقدار نجاحهم ورضاء الرئيس سعيد عليهم فيجدد لهم كي يستمروا بتطوير واقع الناس.