رضوان السيد يكتب:
المقالح الخائف على صنعاء من صنعاء!
آخر مرة في شتاء عام 2021 أخبرني صديق لي أن شيخنا عبد العزيز المقالح أَبَلَّ من مرضه العضال. أرسل الشيخ إلينا جميعاً قصيدته التي يقول فيها: أنا هالكٌ حتماً فما الداعي إلى تأجيل موتي؟! وتوفّي شيخنا أخيراً وبدون مرضٍ ولا إنذار، وما درى أننا جميعاً، نحن الذين عاصرناه وعاشرناه منذ آمادٍ وآمادٍ، إنما كنا نربط بحياته، رحمه الله، حياة اليمن.
فقد مات زميله الأكبر الشاعر البردّوني وكنا نربط حياة اليمن بحياته. وتوفي السياسي اليمني الكبير عبد الكريم الإرياني وكان هذا شأننا معه؛ فكيف لا يستولي اليأس وقد غاب آخر المعالم لأصل العرب من أصل العرب، صاحب ديوان: لا بد من صنعاء، وديوان: عودة وضّاح اليمن!
يقولون إنّ شعراء اليمن كلهم قوميون عرب. لكنْ لعروبة المقالح وأساتذته وزملائه وتلامذته ومريديه، طعم آخر تماماً لم نعرفه لقوميي الشام والعراق. فعندما ذهبت للتدريس بجامعة صنعاء عام 1988 وكان المقالح مديرها، ما رأيت في مجلسه على مدى سنوات غير شعراء العرب وأدبائهم وروائييهم وفنانيهم. وقال له مرة أحد عروبيي الشام، وقد أفاض في ذكر محاسن أدونيس: أدونيس يحب صنعاء، لكنه يكره العرب! فابتسم المقالح وقال: من أحبّ صنعاء أحبّ العرب، وإن خفي عليه ذلك، ألا ترى إلى محمد أركون صاحب رضوان وخصمه والذي كان عندنا بالأمس فحاكمتموه دون رحمة، فقال بعد طول صبر: لو لم يكن من فضل العرب إلاّ أنهم جاءوا إلينا بالإسلام لكفاهم بذلك فخراً! من منكم يعرف عبقرية العربية مثلما يعرفها أدونيس، وأُراهنكم أنه لو أقام بفرنسا خمسين عاماً لما عرف من الفرنسية عُشْر ما يعرفه من لغة الضاد أو الظاء! أغظتم أركون بالعروبة فأغاظكم بالإسلام، وأُقدّر أنه لو استمررتم على مصارعة أدونيس بالعروبة لاستفزّكم بعظمة الإسلام أيضاً. العروبة أصل وفصل، واليمن أصل العروبة وفصلها، والتفرقة بينهما مستحيلة على أدونيس وغير أدونيس!
شهدتُ في مجالس المقالح وقائع لا تُنسى أذكر منها اثنتين؛ أولاهما خشيتنا على اليمن من حماسة علي عبد الله صالح منقطعة النظير لصدام ضدّ الكويت وضدّ الولايات المتحدة. وبقي المقالح هادئاً ولم يقل شيئاً حتى جاء وفدٌ كويتي إلى صنعاء قوامه القوميون السابقون شاكياً صداماً وأفعال صدّام، وتابع المقالح صمته حتى قال أحد أعضاء الوفد: لقد وقفنا معه في حربه على إيران، ولم يخطر ببالنا أن تكون الحرب التالية علينا! وهنا اغتاظ المقالح وقال: تلك كانت حرباً باغية، وهذه حربٌ ظالمة، ولن يعود العراق كما كان كما لن تسلم روح الكويت، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله؛ يا إخواني: البقاء لأميركا بعد إيران والعراق والكويت!
أما الواقعة الثانية، فكانت عند تحقق الوحدة بين اليمنين. وقتها شاع أنّ المقالح رفض الذهاب مع الذين مضوا إلى عدن رغم حماسه للوحدة. وعندما سألناه عن رأيه قال: خوفي لا حدود له. هناك حزازاتٌ لا تنقضي، وإن لم أذهب اليوم فخشيتي أنني سأذهب غداً للاعتذار والاعتذار، وقد قال لي جار الله عمر وهو أحبُّ القوميين الشماليين - الجنوبيين إليّ: لن نغفر لكم الإذلال الذي مارستموه وتمارسونه ضدنا!
عبد العزيز المقالح من جيلٍ يمني كان عالمه اليمن والقاهرة. وعندما انكسرت القاهرة في النفوس ما بقي غير اليمن. لكنّ اليمنيين مثل بعض اللبنانيين الذين أرادوا عندما غابت القاهرة استبدال دمشق أو بغداد بها. أما المقالح والإرياني والبردوني وآخرون فتشبثوا باليمن وبصنعاء ولا شيء غيرهما. ولذلك فقد خالطهم اطمئنان كبير بسبب الاستقرار الطويل الذي حققه علي عبد الله صالح لعدة عقود. فلمّا غزا الأميركيون العراق وتدفقت الكوادر العراقية على صنعاء قال أمامي المقالح في زيارة لليمن، وكنت قد غادرت من زمان: عسى أن يتعلم السوريون من نموذج صدام! وقلت له: إنّ آل الأسد أشدّ حذراً! فلما وقعت الواقعة في سوريا، قال المقالح: يا للفضيحة، تقول لي إنّ آل الأسد حذِرون، أيحذرون الأميركان ولا يحذرون شعبهم؟ الآن الدور على اليمن من «الإخوان» ومن الحوثيين! أنا هالكٌ حتماً فما الداعي إلى تأجيل موتي؟!
لا ينبغي أن يقتصر الحديث بمناسبة وفاة المقالح على خصوصيته اليمينة والقومية. فهو أحد رواد الشعر العربي الحديث، والنقد الأدبي العربي الحديث. وقد بنى جامعة صنعاء من الناحية الأكاديمية التي ظلّ مديرها لعشرين عاماً. لكنّ أول ما لفتنا إليه هو مركز الدراسات اليمني الذي نشر مئات البحوث للشبان اليمنيين وللعرب وللأدباء الأجانب الذين أُغرموا باليمن. ومع أنه على غير عادة اليمنيين كان يكره السفر والرحلة؛ فإنه استقبل واحتفى بمعظم أدباء وشعراء وروائيي العالم، واحتفى بهم في شعره ومراجعاته الأدبية والنقدية. كنا نقول إنّ الدكتور جابر عصفور، رحمه الله، هو الذي أعاد العرب إلى مصر عندما تولى رئاسة المجلس الأعلى للثقافة. أما صنعاء فظلت بسحرها الخاص وبالمقالح بيئة حاضنة لأدباء وشعراء وأكاديميي العرب من الثمانينات وحتى عام 2010. زملاؤنا اليساريون عرفوا ذلك لعدن بين السبعينات وأواخر الثمانينات. أما المقالح فما كان يفرّق بين يمين ويسار في الاستقبال رغم ضآلة الموارد. قال لي مرة قبل الوحدة بقليل: سمعت أنك تريد زيارة جنوب اليمن، ونحن في مركز الدراسات اليمني نستطيع مساعدتك بسيارة، فإلى أين تريد الذهاب في الجنوب؟ فضحكت وقلت له: أريد الذهاب إلى سيئون بحضرموت من أجل المخطوطات! فتبسّم ونادراً ما كان يضحك وقال: دعْك من هذا الأمر الذي لا يستحق هذا الجهد، وتكفيك مخطوطات شهارة وصعدة وضحيان. وقد سمعتُ أنك تذهب لقراءتها!
كنا نتهامس من حول الشيخ أنه مصابٌ بكآبة في شعره ونثره وثقل حركاته. فقال لي مرة ببشاشته السمحة: هل سمعْتَ بالأسى الشفيف؟ وقلت: هو أسى بدر شاكر السياب في قصيدة المطر! قال: نعم هذا هو أساي ولا شيء غير، لقد فقدت كل أصدقاء العمر فيما بين الستينات والثمانينات بين صنعاء وعدن والقاهرة وديار الغربة وما كانت الدواعي كبيرة، هل تعرف أبيات معروف الرصافي:
من أين يُرجى للعراق تقدمٌ
وسبيل ممتلكيه غير سبيله؟
وما كنت أعرفها فأنشدها وصمت.
الأجيال العربية بين الستينات والتسعينات من سياسيين وشعراء وأدباء ومفكرين وروائيين وفنانين، هي أجيالٌ مأساوية. لكنها أجيالٌ منتجة، ومنتجة بكثرة أحياناً. والمقالح أحد هؤلاء الذين تميزهم موهبتهم البارزة، لكن تميزهم أيضاً يمنيتهم العميقة والشاسعة.
ولنقرأ أبيات المقالح في صنعاء:
صنعاء يا بيتاً قديماً
ساكناً في الروح
يا تاريخنا المجروح
أخشى عليك من القريب ودونما سبب
أخاف عليك منك
ومن صراعات الإمارة.
كان الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين يقول: المقالح واليمن سيولدان من أحشاء الحرب. وقد مات المقالح في أحشاء الحرب؛ فلماذا لا تخرج منها اليمن يا أخ شمس الدين؟!