رضوان السيد يكتب:
النظام الدولي والكلمات المتقاطعة!
آخِر ما قرأته من توقعات عن مستقبل النظام العالمي، كتاب «التحكم بالعالم» لألفرد ماكوي، وهو كاتب أميركي متخصص بالمستقبليات، ويتحدث في هذا الكتاب عن زوال التفرد الأميركي خلال سنوات قليلة، وصعود إمبراطوريات جديدة.
فالولايات المتحدة ستظل قويةً، لكنّ قوتها تقتصر على حدودها وجوارها فيما وراء البحار، بينما تسيطر البرازيل على أميركا اللاتينية، والصين على شرق آسيا والمحيطات بفضل تفوقها الإنتاجي واستيلائها التدريجي من دون استخدامٍ للقوة العسكرية بإسراف مثلما فعلت أميركا. وستعود روسيا لتسيطر على شرق أوروبا، وإيران على آسيا الوسطى، والهند على جنوب آسيا، وجنوب أفريقيا على جنوب القارة الإفريقية، وأنقرة والقاهرة على الشرق الأوسط. ويتواضع ماكّوي فيقول إنّ توقعاته لا تتجاوز العقود الثلاثة، ولا يستطيع التنبؤ بما يمكن أن يحدث بعد ذلك، بسبب تغير المناخ، وصراعات القوة والنفوذ التي لا تنتهي!
وأذكر أنّ أول ما قرأته عن متغيرات القوى في النظام العالمي، كان كتاب فريد زكريا، الهندي المتأمرك، عام 2004، وهو بعنوان «عالم ما بعد أميركا». وفي نظره فإنّ العولمة التي بلورت تفوُّقَ الولايات المتحدة، فتحت المجالَ لقوى أخرى مثل الصين والهند والبرازيل. وستضطر الولايات المتحدة إلى الاعتراف بتعدد الأقطاب، والموافقة على تعديلات مهمة في نظام العالَم تبدو للوهلة الأولى لغير صالحها، لكنها ترفع عن كاهلها الكثيرَ من المسؤوليات التي فشلت على أي حال في القيام بها.
فالولايات المتحدة ما نجحت إلاّ في أعقاب الحرب الثانية لأن تفوقها كان ساحقاً، إنما حتى وقتها فإن نجاحها كان جزئياً، إذ فشلت في الحرب الكورية، وفي حرب فيتنام، وفي حربي أفغانستان والعراق.
ومن زكريا إلى ماكوي، جرت استطلاعات استراتيجية كثيرة، تركّز جميعاً على تراجع الفردانية الأميركية، ودائماً لأسباب اقتصادية واستراتيجية، بينما يصير الجميع إلى التقليل من شأن المستقبل الأوروبي. وبلغ الأمرُ ذروتَه أيام الرئيس بوش الابن ثم أيام الرئيس ترامب حين سميا أوروبا «القارة العجوز». لكنّ السبب الرئيسي كان مختلفاً. فالأوروبيون لم يتحمسوا للحرب على العراق، ولا لتقرب ترامب من بوتين. وبشكلٍ عام ما كان الأوروبيون يحبون النزاعات والحروب والمواجهات التي كانت الولايات المتحدة تميل إليها وبخاصة في زمن الهيمنة (1990-2008).
ظلَّ الأوروبيون، وبخاصةٍ الألمان، يتهيبون النزاع مع روسيا، لاسيما أنهم يعتمدون عليها في الطاقة (البترول والغاز). وفي البداية والنهاية اعتمدوا على براعة المستشارة الألمانية السابقة ميركل في محاورة بوتين ومبادلته الطاقةَ بالتكنولوجيا المتقدمة. تصدّع الأمن الأوروبي الجديد (بعد انهيار الاتحاد السوفييتي) باحتكاك روسيا مع جورجيا عام 2008 وفصل إقليمين عنها بعد حرب سريعة وحاسمة. ثم كانت الضربة الثانية ضد أوكرانيا عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم. ومن يومها ما عاد الأوروبيون واثقين بسحر ميركل، والتي انصرفت إلى الصراع على استقبال اللاجئين السوريين، والإسراع في إنشاء خط النوردستريم مع روسيا!
لقد ظلَّ الصراع على الأوحدية والأولوية وأوراسيا رهن القراءات الاستراتيجية حتى نشبت حرب أوكرانيا مطلع العام 2022. وفي هذه أيضاً ثبت أن الأوروبيين الكبار (وقد فارقتهم بريطانيا) لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم من دون الولايات المتحدة و«الناتو».
وثمن الأمن أن يدفعوا للولايات المتحدة خمسة أضعاف ما كانوا يدفعونه لروسيا مقابل مستوردات البترول والغاز. وليس هذا فقط، بل إنّ أنظمتهم التسلحية ليست أفضل حالاً من سلاح روسيا التقليدي. ولذلك ذُعِروا أيضاً من إمداد إيران لروسيا بالمسيرات وربما بالصواريخ الباليستية.
وإلى هذا وذاك فلا الأميركان ولا الأوروبيون يستطيعون الذهاب إلى صراعٍ مع الصين، لا في الاقتصاد ولا التجارة ولا العسكر.
قبل ثلاثة أيام نعى لافروف، وزير الخارجية الروسي، منظمةَ الأمن والتعاون في أوروبا التي اجتمع وزراء خارجيتها ببولندا ومنعت الوفد الروسي من حضور الاجتماع. روسيا تبدو محتجة على كل النظام الأوروبي والعالمي. وما تزال الولايات المتحدة هي الأقوى، لكنْ إلى متى؟ الأهمّ أنّ الكبار والصغار مستعدون للتمرد عليها. هي قوةٌ بلا هيبة، وقوى دولة أخرى مهيبة لكنها ليست مرغوبة. وهذه أحجيةٌ لا تفيد في حلّ ألغازها وكلماتها المتقاطعة سياسات القوة وحدها.