أحمد شهاب يكتب:

الاستيلاء على الدولة

على رجل السياسة أن يشارك في الشأن العام خلال دورة واحدة أو دورتين فقط، ثم يعود لحياته الخاصة، أما استمرار تمسكه بالكرسي لعدة دورات فمن شأنه أن يجعل من تجاوزه للقوانين التي سنها أمرا اعتياديا.

من المؤسف أن أغلب من يتمكن من الاستحواذ على موقع متقدم في الحياة العامة، سواء كان موقعا وزاريا أو برلمانيا أو إداريا، يظل متمسكا به إلى آخر رمق، وربما يلوث الحياة السياسية بالأفكار السلبية انتقاما على فقده المنصب، أو على عدم اختياره من قبل الناخبين.

حتى أن قضايا ملحة مثل التجديد وتحسين إنتاجية العمل وسواها من الأفكار المطروحة لتقدم المجتمع والدولة تتعثر بسبب استيلاء بعض الشخصيات على المناصب العليا ورفضهم التنازل عنها طواعية، والتعامل مع الموقع كملكية خاصة.

ثمة جدل طويل حول هذه الفكرة، هناك من يعتقد بأن التطوير يرتبط بالضرورة بالثبات واحتكار المناصب، استنادا إلى أن الخبرة المتراكمة تلعب دورا أساسيا في أداء المهام الموكلة إلى الفرد.

على سبيل المثال فإن النائب في الدورة البرلمانية الأولى يطغى على أدائه طابع الاستكشاف لدهاليز الأداء البرلماني ومجالات العمل، وفرص التفاوض مع الحكومة، ويبدأ في الإنتاج العملي والمساهمة الفعلية في الدورات التي تليها.

وفقا لهذه الفكرة تعتقد شريحة من المجتمع أنّ من الظلم المسارعة في الحكم على أداء أي وزير أو نائب داخل مجلس الأمة خلال الدورة الأولى من عمله، وأن الإنصاف يقتضي منحه فرصا جديدة وربما أكثر.

يعتقد أنصار فكرة الثبات أيضا أن التعامل مع أشخاص محددين نعرفهم أفضل من تغييرهم بأفراد جدد تحمل تجربتهم شيئا من الغموض والإبهام، حتى لو كانت عثرات القديم كثيرة، ويقتنص هؤلاء عادة فرصة فشل النموذج الجديد لإثبات صحة رأيهم.

بينما يعتقد آخرون أن التجديد سنة من السنن الكونية، وأن تغيير الوجوه يعني تغييرا في زوايا النظر، وإبعاد العمل، والتي تؤدي بالضرورة إلى فتح آفاق جديدة في العمل المؤسسي بشكل عام، إضافة إلى ما يبثه التجديد من حماسة لازمة للبقاء في صدارة العمل، وتطويره وتحسينه.

والراجح أن التوفيق بين كلا الفكرتين هو الأصوب، فمن الطبيعي أن تفعيل الأفكار والخطط والبرامج يتطلب حيزا من الوقت، إذ لا يكفي الحكم على أداء أي شخص خلال فترة وجيزة لاسيما في مجتمعاتنا العربية المتخلفة إداريا وسياسيا، ومن الطبيعي أن حتى رجال الإصلاح يواجهون حزمة من المشكلات التي تعيق عملهم وتؤخر إنجازاتهم.

لكن في ذات الوقت لا يمكن قبول بقاء الفرد في المنصب لمدد زمنية مديدة، فمن شأن ذلك أن يخلق مشكلات خارجة عن حدود الفرد، وتدخل في حيز انتهاك حقوق ومصالح المجتمع، من قبيل نمو شبكات المصالح والشللية حول الموقع القيادي، والتي تتكاثر وتتوسع عادة بالفساد، وهي أشبه بالمياه الآسنة المتعفنة التي يمضي عليها الزمن دون أن تتجدد.

بل إن مجرد شعور الفرد بأنه متمكن ومستقر في موقع ما كاف لانسياقه في تأمين حياته الخاصة، وبدلا من أن يسخر الموقع لخدمة المجتمع وتلبية احتياجاته، فإنه يستغله في تحقيق مكاسب شخصية ومحدودة في حيزه العائلي الضيق.

وبتتبع سيرة عدد من القياديين أو البرلمانيين الذين مضت على وجودهم سنوات غالبا ما يكون المشترك بينهم أنهم يخالفون القوانين واللوائح التي أقروها هم في السنوات الأولى من حياتهم العامة، في مفارقة غريبة ولكنها تكاد تكون مستقرة عند أعضاء السلطتين التنفيذية والتشريعية العرب.

من جهة أخرى فإن إنجاز الإصلاح لا يقتضي بالضرورة أن يستقر الأشخاص في أماكنهم القيادية لفترات طويلة، فتميز القيادي وإنجاز الوزير ونجاح البرلماني تتضح من خلال طبيعة وجودة أدائهم في الأشهر الأولى من تكليفهم بالمسؤولية.

تشير التقارير إلى القفزة الهائلة التي حققتها سنغافورة خلال سنوات قليلة من تصنيفها كأكثر الدول تخلفا وتبعية إلى أكثرها تطورا وعصرية وذلك عبر تبني نظام الجدارة الذي أبدعت فيه.

ترسم تجربة سنغافورة طريقا واضحا نحو النهوض والتنمية، وتعلن أنّ مكافحة الفساد والسباق مع العصر، وتغيير موقع الدولة التنموي والرتبة الاجتماعية للمواطن ليست أسرارا حربية، وإنما هي سياسات تنموية، وإدارة بارعة.

يتحدث مؤسس النهضة السنغافورية لي كوان يو عن نظرة الدولة للمواطنين وإستراتيجية التعامل معهم “سواء كان والدك وزيرا أو محاسبا أو خبيرا محترفا أو عاملا عاديا أو سائق سيارة أجرة أو بائعا متجولا، فإن موقعك وموقفك يعتمدان فقط على أدائك وحدك في العمل”.

بينما تسير فكرة التجديد داخل مجتمعاتنا بخطى متعثرة، فابن الوزير وزير، وابن القاضي قاض، وابن المدير مدير، وابن القيادي قيادي، ولهؤلاء تُفتح الفرص وتُجير القوانين، بينما تُغلق أمام غيرهم خشية من آثار التغيير ومتطلبات التجديد.

وتنحصر المناصب العليا داخل الدول العربية في أسماء محددة من أبناء الأسر الحاكمة والثرية، حتى لو كانوا من أدنى العقول في مجتمعاتهم وأكثرها بلادة، فالأولوية في الدول العربية هي لفكرة الاستحواذ والاستيلاء، بينما في الدول الناهضة الأولوية لفكرة الإنجاز.

وحتى نتمكن من الإصلاح السياسي والوظيفي في العالمين العربي والإسلامي فينبغي أن نخفف مخاوفنا من الأفكار الجديدة، والخطوات التجديدية بما فيها تغيير الوجوه والعقول، والإيمان بتداول السلطة.

على القادة العرب أن يتخلوا عن نرجسيتهم في الحكم والإدارة، وأن يتحركوا طواعية في اتجاه التخلي عن مناصبهم، والبحث عن عناصر كفؤة تحلل الأفكار والتحولات، وتقود المشهد السياسي، بغض النظر عن ترتيبها الاجتماعي.

ربما تكون هذه المهمة صعبة على القيادات السياسية في الدول العربية، التي اعتادت احتكار المناصب والاستيلاء على الدولة، والتعامل معها بوصفها ملكية خاصة، لكنه مسار التجديد، وسنن التغيير، فهي ولادة جديدة قادمة لا محالة وإن كانت متعسرة.